ما كانت أكثر الخيالات تشاؤما يمكن أن تتوقع هذا المشهد الدامى على أرض ميدان التحرير والشوارع المحيطة به، بالرغم من أن كل المقدمات كانت تشير إلى احتمالية حدوث الصدام بعد أن تمت الدعوة إلى مليونية يوم الجمعة «جمعة قندهار 2» التى خرجت إليها جماعة الإخوان والدعوة السلفية والجماعة الإسلامية فى استعراض قوة لمواجهة وثيقة «السلمى»، وكالعادة انفض حشد «الجلاليب والذقون» بعد صلاة المغرب، ليبيت الشباب وحدهم فى الميدان انتظارا للصباح التالى والذى حمل ما لا يمكن قبوله على أى مستوى وطنى، من انتهازية نخب سياسية، ومن اتجاه حكومى لم يدرك أن سيكولوجية المصريين قد تغيرت وأنه لم تعد هناك أعصاب فى هذا البلد تحتمل أن يتم ضرب متظاهر ولا سحله، ومن تردد إدارى، من السلطة الأعلى، عازف عن التدخل. دفعت الحكومة المقالة الجميع إلى حافة الهاوية ولم يكن هدفها سوى الاحتفاظ بمقاعد مجلس الوزراء، وصبت كل الزيت على كل النار، بدءا من اختيار توقيت مريب لطرح وثيقة «السلمى» وهى تنتظر إجراء استحقاق برلمانى بعد أيام قليلة، وانتهاء إلى التعامل العنيف مع اعتصام 200 شخص ارتفع فى الأيام التالية إلى مئات الآلاف، لتنجح فى صنع حالة ثأرية (تار بايت)، فبدلا من الحوار السياسى مع المعتصمين، تتحرك قوات الأمن لفض الاعتصام. ربما كانت الحكومة المقالة تريد أن تلوح بالقبضة القوية وهى تستعد لإدارة الانتخابات البرلمانية، ربما كانت تريد أن تعلن عن عودة السيطرة الأمنية إلى الشارع، ولكنه كان الفعل الخطأ فى الاتجاه الخطأ، فالمعتصمون فى التحرير فى اليوم الأول لم يكونوا من البلطجية والشباب الذى انضم لهم لم يكونوا من سماسرة الانتخابات ومحترفى الترهيب فيها ولا هم من بلطجية الانتخابات. ومن ثم كان من المدهش امتناع رئيس الوزراء المقال د. عصام شرف عن النزول إلى ميدان التحرير - والذى يتفاخر بأنه قد جاء منه- ولا واحدا من وزرائه لإدارة حوار سياسى، عشية أول يوم شهد أحداث عنف ولا ثانى يوم ولا ثالثه ولا رابعه، واكتفى بإبداء أسفه وأسف حكومته مصحوبا بإشارة عدم فهم لما يحدث ؟! أو من المتسبب فيه ؟! إشارة خبيثة تريد أن تعلق دم هذا الشباب فى رقبة أخرى غير رقبته ورقبة حكومته. لتضعنا الحكومة المقالة أمام طرفى قتال، قوات الأمن التى رأت أنها تؤدى واجبها، فض الاعتصام ثم حماية وزارة الداخلية من الاقتحام، والطرف الثانى شباب مكشوفو الصدر أمام قنابل دخانية وأعيرة مطاطية وخرطوشية وأيضا نارية، الطرف الأول لا يريد لصورته أن تهتز ولا لإرادته أن تنكسر، والطرف الثانى رفض هذا التوجه، ليسقط الضحايا، فتتحول الأزمة إلى «تار بايت» بين معتدٍ ومعتدى عليه، ويتراجع الحوار ليحل محله الطوب وزجاجات المولوتوف والقنابل الدخانية، وتتراجع المطالب ليحل محلها حق الدم .. نعم حق الدم. ويصدر أغرب ما يصدر عن رئيس وزراء فى أغرب تصريح لم يعرفه نظام سياسى على وجه الأرض، عندما يصرح المقال د.عصام شرف بإرساله خطاب إلى وزير الداخلية يطلب فيه وقف العنف ! رئيس وزراء لا يتحدث لوزير داخلية حكومته وإنما يرسل له خطابا ! ليست نكتة ولا طرفة ولا عبثا، وإنما محاولة مكشوفة من غسل اليد من مسئولية السقوط السياسى والتنفيذى، محاولة لإبراء الذمة السياسية وإلقائها على آخرين، معلومين ومجهولين. حق الدم .. الذى بات على مصر كلها أن تدفع ثمنه فى فوضى سياسية ومعسكرات منقسمة وتلويح بمواجهات عنيفة، بينما يرحل رئيس الوزراء المقال دون سؤال أو حساب عما فعله وحكومته فى بر مصر على مدى أشهر طويلة ماضية وأوصلها إلى هذا المشهد، أشهر طويلة حذرنا فيها من سوء تقديره السياسى وارتعاش قدرته الإدارية، واحترافه لإلقاء المسئولية على آخرين، لم يكن المقال د. عصام شرف «رئيسا للوزراء» وإنما كان «لا رئيس للوزراء»، ومن ثم استحق ليس فقط السؤال وإنما الحساب.