فى فترة حكم الزعيم الخالد جمال عبدالناصر لم يكن الوعى لدى شخصى الضعيف قد اكتمل، ولكن ذلك لم يمنع من أن أتعرف على شخص ناصر وأهل ناصر من خلال عشرات الأطنان من أوراق الصحف والمجلات والكتب وعلى رأسها كتب الكاتب الأكبر محمد حسنين هيكل التى تناولت سيرة الرجل وما أجملها من سيرة هذه التى خلفها جمال عبدالناصر وأفراد أسرته دون استثناء وما أرفعها من مكانة تلك التى احتلتها السيدة العظيمة الفاضلة تحية عبدالناصر هذه الأم المصرية التى تفرغت تماما للمهمة المقدسة فأحسنت تربية صغارها وانشغلت على الدوام بمشكلاتهم وتعليمهم وتربيتهم.. لقد حمل جمال عبدالناصر على كتفيه أعباء مصر والعالم العربى وكانت تحية عبدالناصر تلعب الدور المهم والخطير فى رفع أعباء المنزل والأولاد عن كاهل الزعيم المحملة أساسا بما لا يحتمله البشر. لقد مرت هذه السيدة فى حياتنا كما النسيم العليل فلم نشاهدها على الإطلاق تتصدر عملا اجتماعيا أو تمارس نشاطا سياسيا أو تتجه إلى عالم البيزنس أو تتصدى للميكروفون تتفلفس فى خلق الله كما أنها ولله الحمد لم تحصل على شهادة فخرية من أى جامعة سواء على المستوى المحلى أو الدولى واكتفت بشهادة خلق الله فى أنها السيدة التى تربعت على عرش القلوب وأصبحت أما لا لخالد وحكيم وعبدالحميد ومنى وهدى فقط، لكنها تحولت إلى أم لكل المصريين ونموذج للزوجة الصامدة القنوعة الراضية المؤمنة. لقد كانت قسمات وجه السيدة تحية عبدالناصر تحمل كل معانى المحبة والبراءة، وجه بشوش ودود إلى المدى الأقصى عندما تعرضت السينما المصرية إلى هذه الشخصية العظيمة الأثر فى نفوس المصريين لعبتها باقتدار السيدة فردوس عبدالحميد التى تحمل الملامح المصرية وبشرة أهل النيل السمراء وطيبة قسمات وجوههم، ومع شديد الأسف لم يكن هناك تركيز على شخصية السيدة تحية عبدالناصر فهى تستحق منا اهتماما وتقديرا أكبر وأعمق من مجرد دور فى فيلم، هذه السيدة الأصيلة التى عاشت بقدر ما عاشت ولم تترك خلفها ميراثا ولا عقارا ولا أموالا، لكنها خلفت وراءها قدرا عظيما من المحبة وقدرا أكبر من الاحترام.. إنها سيدة الزمن الأبيض والأسود زمان الخير والبركة والسمعة الطيبة التى كانت فى ذلك الزمان بمثابة الثروة الحقيقية التى يمتلكها صاحبها وما أعظم ثروتك يا سيدتى الفاضلة، الفاضلة حتى الآن متربعة على عرش قلوب البسطاء والطيبين والمهمشين من أهل مصر عليك رحمة الله ورضوانه! وما أخطر ما جرى فى بر مصر من تغييرات بعد رحيل ناصر ومجىء أنور السادات، فقد تبدلت الأحوال وظهر السادات كنقيض لشخصية ناصر وأفسح المجال للسيدة قرينته لكى تتصدر المشهد إلى جانبه، ولأول مرة يدخل القاموس السياسى المصرى لقب «سيدة مصر الأولى» وكانت شخصية جيهان السادات كما بدا للمقربين قوية، سيدة تملك ناصية الكلام، تتحدث بطلاقة اتجهت فى البداية لرعاية المشروعات الخيرية وعلى رأسها الوفاء والأمل واحتضنت مصابى حرب أكتوبر المجيدة، وكانت واجهة مضيئة لعصر أنور السادات، وقد اكتشف فيها أحمد بهاء الدين رحمه الله أبعادا شخصية ربما خفت عن أقرب المقربين إليها، وكان الأستاذ بهاء يعتقد أنها لعبت دورا خطيرا فى تهدئة الأمور فى سنوات السادات الأخيرة ولطفت الأجواء بينه وبين خصومه السياسيين ورفضت رفضا قاطعا حملة الاعتقالات التى تعرض لها أصحاب القلم والفكر وأهل السياسة ولا أنسى حتى اليوم ذلك اللقاء الذى جمع الولد الشقى السعدنى الكبير والعم بهاء رحمهما الله حيث قال عم بهاء للسعدنى: لو أن الله أراد لمصر خيرا لحكمت جيهان السادات مصر فى سنوات السادات الأخيرة! والشىء الغريب أن عصر الرئيس السادات شهد أغرب عملية تحول فى تاريخ مصر من الاشتراكية، حيث سيطرة الدول على وسائل الإنتاج إلى عصر الانفتاح الاقتصادى الذى أسماه محمود السعدنى «الانفشاخ الاقتصادى» بينما أطلق عليه أحمد بهاء الدين «انفتاح السداح مداح»، أقول على الرغم من أن المسائل كانت سبهللة وظهرت على السطح نماذج لأثرياء جدد لم يعهدهم المجتمع المصرى من قبل، إلا أن جمال السادات وجيهان الصغيرة كانا بعيدين تماما عن أى نشاط مالى أو تجارى، وفى الوقت نفسه لم يكن هناك أى طموح يراود الابن البار جمال السادات لكى يدخل اللعبة السياسية أو يفرض نفسه على الأمة من خلال حزب الوسط أو حزب مصر أو الحزب الوطنى بعد ذلك، وعلى الرغم من أن أنور السادات كان الفرعون الأول الذى يتجرأ عليه أحد أفراد شعبه ويوجه إلى صدره الرصاصات القاتلة فتنحسر الأضواء عن الأسرة تماما، أقول على الرغم من ذلك ظلت ذكرى جيهان السادات طيبة لدى الذين اقتربوا منها فهم جميعا يذكرونها بالخير لأنها كانت تتعامل مع الناس بود حقيقى غير مصطنع وبلا تعالٍ أو عجرفة أو فشخرة كدابة فكانت نموذجا للتواضع وهى زوجة رئيس الجمهورية وسيدة مصر الأولى، لم تتدخل على الإطلاق فى شئون إدارة الدولة، ولم تعين أحدا من الوزراء ولم تقل أحدا منهم ولم تقف حائلا دون تعيين نائب للسادات، وفى نفس الوقت لم تزك أحدا للمنصب، فقد تركت شئون الحكم لمن هم أجدر بها وعلمت مكانها وموقعها جيدا فلم تتخط الحدود ولم تتجاوز الصلاحيات، وعندما بدأ الإعلام يسلط عليها الضوء اكتشف جموع المصريين كم أضافت هذه السيدة بظهورها الإعلامى خصوصا مع الإعلامى أحمد منصور، أقول أضافت إلى رصيد زوجها الشىء الكثير، سيدة شديدة التهذيب، أدب جم، حديث ممتع كالسهل الممتنع، منطق يستعذبه العقل، ووفاء بلا حدود للرجل الذى شاركته رحلة الحياة، وبدأت معه من تحت الصفر وصعدت معه سلالم المجد، وكانت أعظم لحظة فى هذه الرحلة هى ساعة الانتصار الأعظم فى تاريخ العسكرية المصرية فى العصر الحديث يوم السادس من أكتوبر لحظة عبر فيها السادات بمصر من هزيمة نكراء إلى شموخ وكبرياء واستعادة للروح، وما أقسى نفس هذا اليوم بعد ذلك ب 8 سنوات، حيث شهد لحظة الوداع الأخير فى يوم مجده مات مقتولا على أيدى مجموعة من الجنود انتموا إلى تيار متشدد، والغريب أن الحاسة السادسة دفعت جيهان السادات لكى تقترح على زوجها أن يرتدى قميصه الواقى من الرصاص، لكن هل يحمى الواقى قدرا مكتوبا؟ رحم الله السادات وأمد فى عمر السيدة الفاضلة جيهان السادات التى اتجهت للعمل فى التدريس بإحدى الجامعات الأمريكية لكى تحفظ لنفسها مستوى الحياة الذى كفلها إياه السادات ولم نسمع عن ثروات طائلة تجرها من خلفها أو أسطول سيارات فارهة تمتلكها أو عقارات خارج حدود الوطن أو حسابات لمكتبات عامة تبرطع فيها كيف تشاء ولم يقترب منها جهاز الكسب غير المشروع، ولا جهاز من أجهزة التحقيق، ذلك لأنها لم تنظر إلى مصر كعزبة تركها لها الوالد فى الميراث، ولم تعتبر المصريين عبيدا تصنع بهم ما تشاء وقت تشاء وكيف تشاء، ولعنة الله على هؤلاء الذين تصوروا أن مصر بقرة حلوب أوقعها حظها العاثر فى براثنهم وحولوا مصر المحروسة إلى «وسية» وجلسو ا على عرشها مثل تنابلة السلطان لا عمل ولا مشغلة سوى النصب والاحتيال والتهليب وكل شىء يغضب الرحمن، هؤلاء الذين حولوها إلى جمهورية ملكية يتوارثها الابن بعد أبيه، وقد سنحت لى الظروف أن أشهد المشهد الأول فى مسلسل التوريث عندما جاء أحدهم إلى السعدنى الكبير فى نادى الصحفيين النهرى وقال له بالحرف الواحد: يا عم محمود أنت كاتب الشعب المصرى والناس البسطاء، احنا عاوزينك تشوف جمال مبارك علشان يقعد معاك ويكتسب شعبية عند الناس! وبعد أن خرج هذا الرجل الرأسمالى أو إن شئت الدقة الرأزبالى خرجت من السعدنى أصوات استهجان وهى أصوات سكندرية أعقبها بالقول: اللهم صل على النبى.. ده ناوى يقلبها ملكية! وأخذ السعدنى يسخر منهم وفضح هذه الحكاية عن طريق التليفون المحمول منه والمحطوط، وكان السعدنى يردد دائما بمناسبة هذه الحكاية نكتة تقول- وهذا الكلام كان فى التسعينيات - واحد بيقول لصاحبه: يا أخى أنا عاوز أرشح نفسى رئيس. فرد صاحبه: أنت حمار! فأجاب صاحبنا: الله هو لازم! وغضب البعض فى الرئاسة من السعدنى واعتبروا أن تشنيع السعدنى على جمال أمر غير محمود، فلم يعد مدعوا إلى أى حفل رئاسى أو مناسبة قومية، ولا أخفى على حضراتكم أن هذا الحال أسعده كثيرا، لأنه قرأ فى كتاب مفتوح أن مصر رايحة فى داهية بعون الله، بفضل «أخونا جمال مبارك» والذين معه. وكان السعدنى يذكر بالخير عمنا المتنبى الذى قال كلاما منذ عدة قرون من الزمان ينطبق أيضا على زمن ورجال وسلوك حسنى مبارك. نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيد!