آسفة.. لن أستطيع استيعاب أي معلومة جديدة حاليا لأنني في مرحلة الdelete!! بهذه الكلمات الجافة والحاسمة أجابتني ابنتي وهي تضع يدها بعصبية علي رأسها عندما رغبت في لفت نظرها لمعلومة في فقرة تليفزيونية نشاهدها سويا أتابعها أنا بتركيز شديد وتتابعها هي بعيون شاردة وذهن غائب. استوقفني التعبير الكمبيوتري إن جاز التعبير لكن ما أفزعني هو مغزاه حيث استطردت ابنتي موضحة: علي مدي 12 شهرا والمدرسين يحشروا في عقلي معلومات وبيانات وأرقام، وعقلي دوره الوحيد أنه يسجلها بحذافيرها حتي يستدعيها في الامتحان وينقشها علي الورق صورة طبق الأصل من الكتاب والملزمة.. ونظرا لأنني مقبلة علي 12 شهرا أخري من الحشو كمرحلة ثانية للثانوية العامة لابد من أن أعمل delete لذاكرتي علشان تقدر تستوعب اللي جاي.. لا أنكر أن كلمات ابنتي قد صدمتني فقد كانت تجسيدا لواقع نعرفه ونتعايش معه منذ سنوات ورغم ذلك ننكره بكل حماس واستنكار. فالواقع أن منظومة التعليم في بلادنا تتعامل مع أولادنا وكأنهم عقول إلكترونية دورها تخزين المعلومة لحين استدعائها في الامتحان وليست عقولا بشرية عليها أن تستوعب المعلومة وتفند محتواها حيث تملك رؤية نقدية لتفحص المسببات وتتوصل للنتائج بنفسها. منظومة التعليم حولت أولادنا إلي مجرد «ذاكرة تخزينية» ذاكرة مكدسة متشبعة لا تستطيع أن تستوعب أي معلومة خارج المنهج حتي لو كانت معلومات عامة بسيطة أو خلفية ضرورية عن أحداث جارية. منظومة تتعمد تشويه وتسطيح عقول أجيال قادمة فتحولهم إلي مسخ آلي وأصحاب مجاميع فلكية وعقول خاوية وللأسف أصبح الحفظ بالصم سلو تعليمنا بصورة عامة في مختلف المراحل وضرورة لاستيعاب المواد العلمية قبل الأدبية علي عكس الشائع، فالالتزام بقواعد وقوانين علمية يمكن الحل بها وتطبيقها أصبحت موضة قديمة فالكيمياء والفيزياء بل والتمارين الرياضية لابد من حفظها صم.. فلا وقت للفهم وأتذكر منذ سنوات عندما كان ابني الأكبر في الثانوية العامة قسم رياضة اضطررنا للاستعانة بمدرس خصوصي آخر غير مدرس السنتر ليكون دوره فقط أن يجيب عن سؤالين محددين هما «إزاي وليه». إزاي القانون ده تم التوصل إليه. وليه بنحل المسألة بالطريقة دي وهما بالطبع السؤالان اللذان كان ابني لا يجد لهما إجابة سوي هو كده احفظ وخلاص مفيش وقت إني أفهمك وأشرحلك . وهي الإجابات التي كانت تخنقه وتدفعه لأن يكره المواد العلمية التي يعشقها. وللأسف رغم مرور 5 سنوات علي هذا الموقف ورغم قيام الثورة وسقوط النظام لا يزال هذا النظام التعليمي العقيم متربعا علي العرش والدليل علي ذلك أن معدل الواجبات الأسبوعية التي كانت ابنتي مطالبة بالإجابة عنها أسبوعيا هو حل 100 120 مسألة رياضيات والحجة في ذلك إنك لابد تكون جميع المسائل قد حفظت حلها فلا وقت للتفكير في الحل بلجنة الامتحان «!!» أما مدرس الكيمياء فقد كان يؤكد للطلبة أن المنهج الذي يدرسونه مثير للسخرية وبه معلومات خاطئة تجاوزها العلم والزمن وكان يطالبهم بكتابة معلومات إضافية ليست للحفظ ياولاد لكن علشان لو حد بيفهم وبيدرس صح شاف الملزمة أو كتاب المدرسة لا يتهمكم أو يتهمني بالجهل. فإذا كان هذا هو حال طلابنا وحال تعليمنا ألسنا في أمس الحاجة فعلا وفورا لإجراء عملية delete لمنظومة التعليم في بلادنا لو كنا نريد حقا إصلاحه؟!