قبل ثلاثة آلاف عام أدرك الكاتب المسرحي الاغريقي سوفوكليس: «إن قيمة المعرفة ليست في ذاتها، بل في أسلوب استخدامها». وفي ثقافتنا العربية والإسلامية هناك قاعدة مستقرة وهي التمييز بين علم ينفع وبين جهل لايضر.. وهذا التمييز مهم جداً وحكيم جداً.. يجعلنا ندرك أنه ليس من الضروري إذا كانت المعلومة صحيحة أن يكون جمعها ونقلها مفيداً، فهناك معلومات يمكن أن تكون صحيحة ولكنها غير مفيدة. فمن طبيعة الذهن الإنساني أن ينشغل بما يعلم.. فالعقل الإنساني ليس آلة أو جهاز كمبيوتر.. إذ يمكن للإنسان أن يخزن معلومة في الكمبيوتر دون أن يضره بها، لكن من الممكن جداً أن يتم تخزين معلومة في ذهن الإنسان علي نحو يضر به، فيمكن أن ينشغل بالأمر أكثر من اللازم وأكثر من مصلحته في ذلك. فإذا كانت المعلومة تافهة أو حقيرة، حتي وإن كانت صحيحة فلابد أن يترتب علي تلقيها والانشغال بها أن يصبح الإنسان أيضاً بدرجة أو بأخري تافهاً أو حقيراً... لأن ذلك لابد أن يكون علي حساب شيء آخر أكثر أهمية وفائدة. والآن قد أصبحنا للأسف نتباهي بما نملكه من أطباق الاستقبال وما ننشئه كل يوم بل كل ساعة من قنوات فضائية وبكثرة ساعات الإرسال وكأنه كلما زادت هذه الأشياء كان ذلك مظهراً من مظاهر التقدم، مع أن الجزء الأكبر مما نبثه للناس هو معلومات تافهة من ذلك النوع التي تضر أكثر مما تنفع. فعقولنا تشبه أجسامنا تحتاج لقدر محدد من المعلومات ليستفيد منها فمثلما جسم الإنسان لا يستفيد من الغذاء إلا بهضمه، فإن عقله أيضاً لا يمكن أن يستفيد من المعلومات إلا بهضمها واستيعابها ثم الربط بينها.. فإذا زادت المعلومات عن الحد فإما أن يصبح الفهم قاصراً أو يصبح الربط بين الأشياء قاصراً، وهذا هو الفرق بين المعرفة والمعلومات. فهناك إنسان يمكن أن يكون لديه معلومات كثيرة جداً لكن درجة معرفته محدودة. أي نسبة ما تم هضمه من هذه المعلومات ضئيلة.. وما عملية التفكير وشرود الذهن إلا محاولة من المفكر استبعاد كمية من المعلومات غير المفيدة بالنسبة للموضوع المنشغل به.. وهنا أتذكر أن أول صحيفة صدرت في الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ أكثر من مائتي وخمسين عاماً كان مكتوباً في صفحتها الأولي أنها صحيفة تصدر عند الحاجة، أي عندما تكون هناك أخبار تستحق النقل والتعليق عليها. وليس ملء الصفحات «عمال علي بطال» وأعتقد أن موقفنا الخاطئ من جمع المعلومات والظن بأنه كلما زادت المعلومات كلما كان ذلك أفضل شبيه بموقف الاقتصاديين من التنمية الاقتصادية الذين يقولون إنه كلما زاد حجم السلع والخدمات كلما زادت رفاهية الإنسان وهذا غير صحيح بإثبات التجربة فالسعادة ليست في حجم ماتملك بل في قيمة هذا الذي تملكه في عينيك وفي عيون من هم حولك.. وبالتالي يمكن القول إن التنوير وتحرير الإنسان لا يمكن أن يقاس بسرعة نقل المعلومات بقدر ما يقاس بنوعية المعلومات التي تنقلها وقيمتها. والإعلام بالطبع يستطيع أن يلعب دوراً مؤثراً وفاعلاً في صناعة قناعات الشعوب وتحديد اتجاهات أولوياتها وغرس بذور الحب والكراهية وتنميتها تجاه قضايا وأشخاص. لكن الإعلام ليس سوي عامل مساعد ومضخم ومغذٍّ للحقائق. ومتي تضاربت الحقائق مع سياق الخطاب الإعلامي يتحول الإعلام إلي أضحوكة ومادة للتندر والسخرية. والشعوب العربية من أغني شعوب العالم تجربة في كوارث الشحن الإعلامي بجرعات مؤذية ومضرة بالأمن القومي العربي وكارثية فيما يتعلق بثقة الشعوب بأقوال الحكام. فتجربة صوت العرب وما بنته من آمال علي زعامة عبدالناصر وجبروت جيشه وما أعقب ذلك من هزيمة مذلة مدمرة كانت أول مسمار يدق في نعش المصداقية الإعلامية العربية. وتلا ذلك تجربة الرئيس المهيب القائد الملهم صدام حسين وأم المعارك وقادسيته وما جلبته للعراق بل للأمة بأسرها من حسرة وندم وما جرت العراق إليه من ويلات مازال يقاسي ذيولها.. وما يحدث في مصر الآن من صراخ وزعيق وتشنج ورفض للآخرين جعل الكثيرين يتوقون إلي لحظة هدوء للتأمل والدراسة والتقاط الأنفاس ثم استئناف السير من جديد عسي أن تنحرف خطواتنا إلي طريق أكثر أمناً وأماناً لهذا الوطن الذي نعشقه جميعا وهو بالفعل يستحق المزيد والمزيد من العشق والجهد. نعم الإعلام يكتب المسودة الأولي للتاريخ وأي محاولة لاختلاق الأحداث أو تضخيمها أو المبالغة فيها أو حتي القفز بالتوافه من الوقائع إلي الصفحات الأولي، هي جريمة تزوير للواقع وقتل للحقيقة مع سبق الإصرار والترصد، وهي جريمة ضمير، سيدفع ثمنها أولادنا وأحفادنا، وللأسف، لا يعاقب عليها القانون؟!