أول مرة وقع بصرى على عم عبدالنور كان فى العام 1981 فى منزل الفنان الكبير عادل إمام، وقد تونست بطريقته فى الحوار، فهو هادئ كما صفحة النيل، له صوت تشعر أنه قادم من أعماق التاريخ وعلى ملامح وجهه ترتسم علامات الوقار، واكتشفت بعد ذلك أن العم عبدالنور صاحب رحلة مضيئة وتعيسة عانى خلالها الأمرين وذاق طعم الفشل وتجرع مرارة المأساة، وأنه شارك الولد الشقى السعدنى الكبير العمل فى عدد من المجلات والجرائد وهما فى بداية الطريق: النداء والسحاب والاثنين والقاهرة.. وذات مرة اضطر السعدنى وعبدالنور إلى بيع المكاتب الخاصة بإحدى هذه الصحف لكى يسددا ديون المطابع ويرفعا أجور الصحفيين، وكان من بين أبناء الجيل الذى انتمى إليه العم عبدالنور رسام الكاريكاتير الشهير طوغان والكاتب الصحفى على جمال الدين.. والشىء الغريب أن هذا الجيل الذهبى استقر كل فرد من أفراده فى مؤسسة بمفرده، فقد ذهب العم عبدالنور إلى دار الهلال وذهب طوغان إلى الجمهورية والسعدنى إلى روزاليوسف. وفى دار الهلال كان العم عبدالنور بحكم تركيبته الهادئة وطبيعته الطيبة الودودة، ابتعد تماماً عن المشاكل وقرر مخاصمة السياسة واهتم بقيم الجمال والذوق، فاتجه إلى الكتابة فى الفن وقرأ كتباً بعدد شعر الرأس، واهتم بما يجرى حولنا فى أنحاء العالم خصوصاً فى مجال السينما، وكان هناك ثلاثة فرسان تخصصوا فى الكتابة الفنية منهم العم عبدالنور خليل والراحل سامى السلامونى وعمنا فؤاد معوض الشهير بفرفور، وقد جمع هذا الثلاثى الفنى روح المرح الدائم التى كانت سمة لا تفارق شخصية أى منهم وكان الثلاثى ينتمون إلى مدرسة المشاغبين العظام، فهم لا يعترفون بوسائل المواصلات ولا اقتناء السيارات وكانوا ثلاثتهم يجوبون شوارع القاهرة ومسارحها ويرتادون دور السينما ويملأون أى مكان بهجة وفرحا لا مثيل لهما، ولذلك ما أكثر ما التقيت العم عبدالنور فى شوارع السيدة زينب، الحى الذى سكنه وهو فى شرخ الشباب، ورفض أن يفض الاشتباك بينه وبين أبنائه البسطاء الطيبين بعد أن أصبح صحفيا شهيراً فى عالم الصحافة وفى دولة الفنون. وكانت القاهرة القديمة هى بمثابة المجال الحيوى الذى يمنح العم عبدالنور أوكسجين الحياة وفيتامينه فقد أحس أنه جزء من التاريخ الشعبى لهذه الأحياء وأنه ابن بار لأحياء الجمالية والغورية وباب الشعرية، ولذلك أيضاً انحاز العم عبدالنور خليل للبسطاء فى الوسط الفنى وحرص على تسليط الضوء على هؤلاء الذين يقبعون فى المنطقة الرمادية لا يجدون من يسلط عليهم الضوء، والأمر المثير للدهشة أن هذا الجيل الذى انتمى إليه العم عبدالنور ظل ممسكاً بالقلم متمسكا بالمهنة متشرفا بالانتماء إليها فى نفس الوقت الذى تشرفت المهنة بهم، فقد سقطوا جميعا كالفرسان والقلم بين أيديهم ولم يكسرهم ولم يبعدهم عن مجالهم الحيوى الذى تألقوا فيه وبه سوى المرض.. وقد سقط العم عبدالنور بعد أن تمكن منه المرض اللعين.. وعن طريق صديق العمر - محمد عبدالنور الذى بدأت معه رحلتى فى بلاط صاحبة الجلالة - استطعت أن أسمع صوت العم عبدالنور للمرة الأخيرة منذ أيام قليلة وكنت أعلم الحقيقة التى أخفاها عنه محمد، ولذلك استجمعت كل ما أملك من قوة لكى أبدو متماسكا وأنا أستمع إليه وأكلمه وقد وجدته كما عهدته دائماً مرحاً مشاغباً متفائلا فى كل الأحوال ولم يفقد صوته حيويته التى أعرفها وكان يشعر بالألم ولكن هذا الجيل العظيم من الآباء والأساتذة تعلم أن يكون كبيراً فى كل شىء حتى فى احتماله للألم واحتضانه للمرض.. رحم الله العم العزيز والكاتب الصحفى الكبير عبدالنور خليل الرجل الذى عاش وسطنا كما النسيم.. وأيضاً كما النسمة.. رحل فى صمت!!