لماذا قلب «مواطنو الرايخ» ألمانيا .. وفتحوا باب التخوفات والأسئلة ؟! الإجابات غريبة والتفاصيل كثيرة والقصة أكبر من مجرد جماعة تنتمى لجماعات اليمين المتطرف الذين يقلقون العالم والغرب الآن. عام 1765، وصف الفيلسوف الفرنسى «فولتير» الإمبراطورية الرومانية الألمانية المقدسة؛ بأنها التكتل الذى لا هو مقدس ولا رومانى ولا إمبراطورية. وفى مشهد مكتوب فى فاوست عام 1775، تساءل الكاتب الألمانى «جوته» على لسان «أخج» محتسى الخمر فى قبو لايبزيك: إمبراطوريتنا المقدسة يا فتيان ما الذى لا يزال يحتفظ بها متماسكة ؟ فتح القبض على «مواطنو الرايخ فى ألمانيا» مجالاً للبحث فى أصول الأزمة. من الصعب جمع ألمانيا فى تاريخ واحد؛ حيث إن هناك تاريخًا كبيرًا للموقع الجغرافى، الذى يضم تقريبًا مساحة البلاد الحالية فى تلك المساحة الجغرافية المترامية يتعقد التاريخ الألمانى على مر التاريخ.. تاريخ الشعوب الوارثة للإمبراطورية الرومانية وتاريخ المنطقة الناطقة باللغة الألمانية.
يبقى الرايش الألمانى عبارة عن مجموعة من إمارات كبيرة وصغيرة مستقلة سياسيًا على الأقل من الناحية النظرية وصل عددها فى عام 1650 إلى حوالى 360 إمارة. استمر التشرذم حتى القرن التاسع عشر، حين انتشر شعور بالانتماء القومى، الذى قاد فى النهاية إلى المطالبة بإنشاء دولة قومية ألمانية. التاريخ يكشف بوضوح أن القبائل الجرمانية استوعبت الأساليب الرومانية فى بناء الإمبراطورية وسارت على دربها. ولهذا فإنه بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية الأولى، ولد الرايخ الأول فى عهد الإمبراطور شارلمان، والثانى فى زمن القائد بسمارك، وضاع الثالث فى عصر هتلر، فهل يولد الرايخ الرابع الآن؟! ماذا يعنى الرايخ؟ أواخر يونيو الماضى كتب المحلل السياسى الروسى الشهير «ألكسندر سيتينكوف» من خلال «سفوبودنايا بريسا» الروسية مقالاًَ مطولاً حول «عودة الرايخ الرابع» إلى ألمانيا، مشيرًا إلى خطة للسيطرة والقوة. أسئلة عديدة أثارها مقال «سيتينكوف»، تبدأ من: ما الذى يجرى فى ألمانيا على وجه التحديد؟ وما توجهات الألمان نحو فكرة الرايخ الرابع، وهل حقًا بات الأمر مزعجًا لأوروبا من ارتباط مفاهيم الرايخ بما يسمى بالصحوة الألمانية اليمينية المتطرفة التى بدأت تتجدد شأنها فى ألمانيا شأن جماعات أخرى فى دول أوروبية أخرى؟ الذى يشعرون به الأوروبيون من جراء تنامى قوة الحركات اليمينية الألمانية.. ناهيك عن قلق الأمريكيين والروس.. وأخيرًا السؤال المهم: ما مدى خطورة مواطنى الرايخ؟ الحركة متواجدة منذ ثمانينيات القرن الماضى، ولطالما كان ينظر إلى أعضائها على أنهم مجرد مجموعة من الأشخاص غريبى الأطوار. لكن الحركة بدأت تلفت انتباه السلطات الألمانية وأوروبا كلها الأعوام القليلة الماضية بعد أن بات سلوك أعضائها أكثر عنفًا وعدوانيًا، وأكثر نزوعًا لتخزين الأسلحة واستخدامها، فقد عثرت الشرطة على مستودعات للأسلحة والذخيرة أثناء عمليات تفتيش لمنازل أعضاء الحركة كما أن عددًا لا بأس من الأعضاء كانوا جنودًا سابقين ومن ثم بات مواطنو الرايخ يشكلون خطورة كبيرة على البلاد برأى السلطات، وقد نفذ أتباع الحركة فى الأعوام الأخيرة هجمات ضد الشرطة خلال مداهمات لمنازلهم، متعللين بأن من حقهم الدفاع عن ممتلكاتهم ضد الدولة. عام 2016، أطلق عضو بحركة الرايخ النار على ضباط شرطة فقتل أحدهم وأصاب 3 آخرين بجراح خلال مداهمتهم منزله لمصادرة ترسانة من 30 سلاحًا ناريًا جمعها بطريقة غير شرعية.
فى العام نفسه قام «ملك جمال ألمانيا» السابق والعضو بالحركة، أدريان أورساخى، بفتح النار على الشرطة بينما كانت تحاول تنفيذ أمر توقيفه مما أدى لإصابة بعض من أفرادها بجراح. عام 2020 كانت أعداد كبيرة من حركة مواطنى الرايخ ضمن المتظاهرين ضد القيود المفروضة فى البلاد مؤخرًا لمنع تفشى وباء «كوفيد - 19» وحاولوا اقتحام البرلمان، وأعلنت السلطات الألمانية أن أعضاء بالحركة كانوا من بين الأشخاص ال25 الذين ألقى القبض عليهم مؤخرًا، وأشارت السلطات إلى أن المجموعة كانت تعتزم تشكيل حكومة انتقالية يعهد إليها مهمة التفاوض بشأن نظام جديد للدولة مع قوات التحالف المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية ولاسيما روسيا. يكشف التاريخ الحديث كله مراحل تورط ألمانيا فى نشوب كل الحروب الأوروبية والعالمية. فالحرب الأولى جذورها ألمانية، عندما قُتل مئات الألوف باسم المسيح، حين ظهرت اللوثرية فى القرن السادس عشر نسبة إلى البروتوستانتى الألمانى مارتن لوثر فى محاولة لإصلاح الكنيسة الكاثوليكية، الأمر الذى أدى فى النهاية إلى تقسيم الكنيسة إلى كاثوليكية وبروتستانتية. ساهمت ألمانيا بعد اللوثرية فى نشوب الحروب البروتستانتية الكاثوليكية، حين ثار مارتن لوثر على الكاثوليكية التى كانت تسيطر على طبقة الحكام والأباطرة الذين بدورهم يسيطرون على الثروة بمساعدة الكنيسة، كما كان يقول لوثر. حمل التاريخ وأوروبا ألمانيا للمرة الثانية المسئولية عن إشعال أتون الحروب مرة أخرى حيث نشبت الحرب العالمية الأولى . يذكر التاريخ أن ألمانيا كانت سببًا مباشرًا فى نشوب تلك الحرب سنة 1914 لأكثر من أربع سنوات، وخلفت وراءها 9 ملايين قتيل وملايين الجرحى والمفقودين . حادثة اغتيال ولى العهد النمساوى وزوجته فى سراييفو على يد طالب صربى كانت الشرارة الأولى للحرب حين أعلنت النمسا الحرب على صربيا . تحالفت روسيا مع النمسا ضد صربيا. بدأت الحرب أوروبية ثم انتهت عالمية مدمرة شرسة، خسرت ألمانيا مرة أخرى فى الحرب العالمية الثانية أمام قوات التحالف بعد أن تسببت بمقتل 50 مليون إنسان معظمهم من أوروبا، بعد أن هزمتها قوات الحلفاء، وفرضت عليها شروط استسلام قاسية حتى تم تقسيمها إلى قسمين.
أحلام السيطرة فى القرن الثامن الميلادى ولدت الأمة الألمانية, بداية من عام 1806 كانت تسيطر على تاريخ الحكم فى أوروبا الإمبراطورية الرومانية الغربية المقدسة وامتدت حتى القرن التاسع عشر. شملت الإمبراطورية معظم شمال إيطاليا والأراضى المنخفضة ثم غرب بولندا ثم شرقى فرنسا وسلوفنيا وجمهورية التشيك وسويسرا بألمانياوالنمسا. منتصف القرن الخامس عشر بدأت تعرف بالإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الألمانية، لكن فعليًا يعتبر العام 962 هو التقدير الأقصى لسنة تأسيس الإمبراطورية الأولى على يد أوتو الأول .. أو أوتو العظيم. لكن البعض يفضل ربط بداية الإمبراطورية الرومانية المقدسة بتتويج شارلمان إمبراطورا للرومان فى سنة 800, اللقب يوضح أن الإمبراطورية الكارولنجية كانت تغطى مساحة تشمل فرنساوألمانيا الحاليتين. ربما لذلك يرى غالبية المؤرخين أن قيام الإمبراطورية الألمانية هى العملية التى بدأت بتقسيم الإمبراطورية الكارولنجية بموجب معاهدة فيردان سنة 843، مع استمرار سلالة الكارولنجيين بطريقة مستقلة فى كل من فرنساوألمانياوإيطاليا. كان الجزء الأكثر شرقية من نصيب لودفيش الجرمانى وقد خلفه الكثير حتى وفاة لودفيش الرابع الملقب ب «الطفل» آخر كارولنجى يحكم الجزء الشرقى فى الإمبراطورية. انتخب دوقات لرومانيا وبافاريا وفرنكونيا وساكسونيا وانتخب كونراد الأول الإمبراطور الرومانى المقدس «هو غير كارولنجى» زعيمًا لهم فى سنة 911. رضى خلفه هاينريش الأول الساكسونى بإمبراطورية شرقية منفصلة عن تلك الغربية الإفرنجية «مايزال يحكمها الكارولنجيون» فى سنة 921وأطلق على نفسه لقب ملك الفرنجة الشرقيين.
عين هاينريش ابنه أوتو خلفًا له وكان قد انتخب ملكا بآخن سنة 936، ثم توج إمبراطورًا فى سنة 962 باسم أوتو الأول وحقق أوتو الكثير قبل استلامه السلطة، حين انتصر على المجرمين فى معركة لشفيلد سنة 955. أعتبر الأباطرة الألمان الخلفاء المباشرين للأباطرة الرومان، ولهذا السبب أعطوا فى البداية لقب أوغوسطوس. فى البداية لم يسم الأباطرة فى الغرب بال «رومان» ولعل ذلك تحاشيًا لصراع مع الإمبراطور الرومانى الأخير الذى كان مازال موجودًا فى القسطنطينية. دخل مصطلح الإمبراطور الرومانى على الحكام الرومان فى الغرب وفى ألمانيا فقط بعد عهد كونراد الثانى. فى ذلك الزمن، لم تكن المملكة «ألمانية» بقدر ما كانت كونفدرالية للقبائل الجرمانية القديمة البايوفاريون والسويبى – ألامانيون وربما بقيت الإمبراطورية على قيد الحياة كاتحاد سياسى وحيد فقط بفضل قوة شخصية ونفوذ هاينريش الساكسونى وابنه أوتو.
تغير هذا بعد وفاة هنرى الثانى دون أبناء سنة 102، وانتخب كونراد الثانى أول حاكم فيما يسمى السالية الرومانية ملكًا يبدو أن اختيار الملك كان مزيجًا معقدًا من النفوذ الشخصى والصراعات القبلية والميراث والتزكية من قبل الزعماء المدعوين لتشكيل اجتماع الناخبين الكبار من القبائل الألمانية . توضحت بالفعل فى ذلك الوقت الخلافات الواضحة بين القوميات داخل الإمبراطورية الألمانية وبين القبائل القديمة المتأصلة فى أراضى ألمانيا وبين الإمبراطور. فضل كل ملك قضاء معظم وقته فى أراضيه. هذه الممارسة لم تتغير إلى عهد أوتو الثالث الملك فى سنة 983 والإمبراطور بين عامى 996 و1002، والذى بدأ فى استخدام المقار الأسقفية المنتشرة بالإمبراطورية كمقار مؤقتة للحكومة يبدو أن حتى خلفائه هنرى الثانى، وكونراد الثانى وهنرى الثالث قد تمكنوا من ربط الدوقات بالأراضى. لذا لم يكن مصادفة أن تتغير المصطلحات آنذاك وتظهر إرهاصات مصطلح المملكة التيوتونية . تاريخيًا يقسم تاريخ الإمبراطورية الألمانية لثلاثة أقسام أو عهود. فى ظل النظام الملكى لبيت هوهنتسولرن كانت معروفة بالامبراطورية الألمانية «1871-1918»، وفى الجمهورية الديمقراطية، عرفت بجمهورية فايمار«1919-1933»، ثم عرفت باسم الرايخ الثالث أو ألمانيا النازية, بعد عملية آنشلوس بضم النمسا فى عام 1938، وأصبح اسم ألمانيا بصورة غير رسمية رايخ ألمانيا الكبرى , إذا كان الاسم الرسمى للدولة خلال عامين فقط «1943-1945» من الحكم النازى لهتلر. خلال أكتوبر عام 1873، ناقش المستشار الألمانى بسمارك مع الدبلوماسيين النمساويين والروس بنود المعاهدة التى ستضع حجر الأساس لتحالف هذه الدول الثلاث. وبفضل الجهود الدبلوماسية لبسمارك، ظهر تحالف الأباطرة الثلاثة الذى حاول من خلاله بسمارك إحياء ما يسمى بالتحالف المقدس لعام 1815 الذى جمع بين بروسياوالنمساوروسيا. تزّعم بسمارك المشاورات السياسة بهذا التحالف. ولحل الخلاف البلقانى بين الروس والنمساويين، عرض الأخير اقتسام البلقان لمناطق نفوذ بين القوتين. فبينما سيسمح للنمسا بفرض نفوذها على غرب البلقان، ستحصل الإمبراطورية الروسية على مناطق الشرق.
من ناحية ثانية، حاول المستشار الألمانى من خلال هذا التحالف منع فرنسا من إبرام أية اتفاقيات مستقبلية، موجهة ضد الألمان، مع الروس. نبّه بسمارك إلى خطورة المنظمات الاشتراكية والنقابية المتشددة التى بدأت بالظهور على الساحة العالمية ذلك الوقت، وعقب اتفاقه مع الروس والنمساويين، اتجه لخلق نوع من التعاون بين الدول الثلاثة للتصدى لهذه المنظمات. انهيار التحالف لم يدم اتحاد الأباطرة الثلاثة طويلا فقد انهار بعد 5 سنوات فقط. فخلال العام 1878، تخوفت النمسا من الدعم الروسى لصربيا وتحدثت عن إمكانية اندلاع ثورات بين الشعوب السلافية المقيمة على أراضيها. ومع انهيار اتحاد الأباطرة الثلاثة، ظهر التحالف المزدوج الذى جمع بين النمساويين والألمان والتحق به الإيطاليون عام 1882 عقب احتدام النزاع الاستعمارى على قارة أفريقيا. وعقب معاهدة برلين عام 1878، بدأت الإمبراطورية الروسية فى الشعور بعزلة سياسية وتحدثت عن تجريدها من مكتسباتها الجغرافية بحربها ضد العثمانيين. وأمام هذا الوضع، قبل الروس بإبرام معاهدة أخرى مع الألمان والنمساويين لإحياء اتحاد الأباطرة الثلاثة والخروج من هذه العزلة على الساحة الأوروبية. وبعد نحو 3 سنوات، جددت هذه المعاهدة عام 1884 عقب لقاء بين أباطرة الدول الثلاث بمنطقة سكرينفيتسه. ومع استمرار الخلاف حول البلقان، اتجهت الإمبراطورية الروسية ونظيرتها النمساوية لعدم تجديد هذه الاتفاقية التى عرفت نهايتها بحلول العام 1887. وأملا فى الحفاظ على جانب من التفاهم مع الروس، أبرمت ألمانيا سنة 1887 اتفاقية أمنية سرية مع موسكو. ومع اعتلاء فيلهلم الثانى عرش ألمانيا واستقالة بسمارك سنة 1890، تجاهل الألمان تجديد الاتفاقية مع الروس. واستغل الفرنسيون حينها هذه الفرصة للتقرب من روسيا وإبرام اتفاقية تحالف معها سنة 1892. وقد جعلت هذه الاتفاقية من الجمهورية الفرنسية والإمبراطورية الروسية حليفتين ضد ألمانيا بالحرب العالمية الأولى وظهور الرايخ الثالث . والرايخ كلمة ألمانية تعنى «إمبراطورية» أو «مملكة». استعملت هذه الكلمة خلال التاريخ الألمانى من فترات متعددة. بدأت تسمية الرايخ عام 962 مع تتويج القيصر أوتو الأول الذى قام معتمدًا على رايخ منطقة شرق فرانكن. و«الرايخ الألمانى» هو الاسم الرسمى لألمانيا فى الفترة ما بين 1871 و1945 وترجمته الحرفية هى «الإمبراطورية الألمانية»، وقد انتهى الرايخ الألمانى الثالث رسمياً مع هزيمة النازية فى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. ويقال إن صياغة المصطلح ترجع إلى «أرثر مولر فان دن بروك»، الذى اختار المصطلح عنواناً لكتابه عام 1923. واستخدم الألمان المصطلح ضمن حملاتهم الدعائية، لمنح الشرعية لنظامهم كدولة وريثة معاد تسميتها بأثر رجعى للرايخ الأول «الإمبراطورية الرومانية المقدسة من 962 – 1806»، ومنها اشتق هتلر فلسفة المصطلح لحزبه. كانت رؤية هتلر للرايخ الثالث أنه سيعيش ألف عام، ولهذا انطلق فى حربه الكونية للسيطرة على أوروبا أول الأمر، ثم حارب العالم كله، حتى واجه الهزيمة فى الحرب العالمية.