بعيدًا عن كل الشعارات السياسية، وبمنأى عن كل اللغات واللهجات، اجتمعت لغة السينما التى تنتصر للإنسان وقضاياه ومعاناته، على مدار أيام انعقاد مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته ال 43، فبالرغم من تعدد القضايا المطروحة إلا أن التيمة الأساسية لمعظم الأفلام ركزت على طرح أساسى وتساؤل مهم عن حقوق الإنسان البسيطة ومعاناته فى الحصول عليها، بل وتأثير تلك المعاناة على الشخوص وعلى استكمال رحلتهم فى الحياة. ألقت القضايا الإنسانية بظلالها على أفلام هذه الدورة بوضوح، وكانت الطرح الأبرز فى اختيارات إدارة المهرجان لأفلام دورتها الحالية، وهو ما نتناوله فى السطور التالية. رجل بلا وطن
معاناة المرأة الفيلم الأردنى «بنات عبدالرحمن» الذى تقوم ببطولته صبا مبارك وفرح بسيسو ومريم الباشا وحنان حلو، يبدأ بسرد تفاصيل حياة أربع أخوات لكل منهن حياة مختلفة بل ومتناقضة تمامًا عن شقيقاتها، فمنهن المقهورة من زواج من رجل يقمعها وأطفالها باسم الدين ويسلبهم حريتهم، ويظهر ذلك فى أول مشاهد الفيلم وهى تجبر ابنتها المراهقة على تغطية شعرها قبل ذهابها للمدرسة بشكل مبالغ فيه، خوفًا من أبيها. كما يتضح مدى قمعه لها فى اختيار ملابسها والنقاب الذى لا يظهر ملامحها. أما الأخت الثانية فتبالغ فى الاهتمام بمظهرها، وفى عصبيتها الزائدة فى التعامل مع كل من حولها، ونعلم مع الأحداث ملاحقتها لزوج ثرى لا تستطيع التواصل معه سوى من خلال سكرتيرته، التى جندتها لنقل أخباره ولا نراه مطلقًا فى الأحداث. بينما الأخت الصغرى تعيش حياة متحررة فى دبى، ولكنها شديدة القلق فيما يتعلق بعلاقتها بأسرتها التى انقطعت عنها سوى من خلال رسائلها مع الأخت الكبرى، والتى تحاول إصلاح العلاقة بينها وبين والدها، فهذه الأخت الكبرى «زينب»، والتى جسدتها الفنانة فرح بسيسو، لم تتزوج وفضلت رعاية والدها وأخواتها بعد وفاة أمهن، حيث تعمل «خياطة» لمساعدة أسرتها، لكن تأخرها فى سن الزواج جعلها مهزوزة نفسيًا بسبب خوفها من «كلام الناس»، فتغلق باب غرفتها لترتدى فساتين الأفراح التى تقوم بخياطتها لبنات الحى، وتحتفظ لنفسها بقطعة من كل ثوب. مع عرض ملامح كل شخصية من شخصيات بنات عبدالرحمن، يبدأ المخرج زيد أبو حمدان فى متابعة كل منهن من خلال معاناتها فى مجتمعها المنعزل، والرابط بينهن ألا وهو الأب الذى اختفى فجأة، فاجتمعت بناته بالصدفة، لتبدأ رحلة البحث عنه ورحلة تصاعد الخلافات المتراكمة بينهن أثناء بحثهن عن الأب، فنرى تجسيد معاناة المرأة العربية بشكل عام من خلال نظرة المجتمع ل«خلفة البنات»، ونُكران الأب لكونه «أبوالبنات» ونكرانه لهذا من خلال تلقيب نفسه وسط أصدقائه ب«أبو على». تستمر رحلة «بنات عبدالرحمن» فى البحث عن أبيهن، وكذلك البحث عن أنفسهن، حتى يتحررن من كل قيودهن، وتسقط خلافاتهن المتراكمة. ورغم النقاط الداكنة فى «حدوتة» كل شخصية، إلا أنه تم طرحها ومعالجتها بشكل كوميدى خفف من وطأة تلك المعاناة، خاصة لحظات تحرر كل شخصية من قيودها، فبنات عبدالرحمن لم يكن يبحثن عن أبيهن بل كانت رحلة للبحث عن أنفسهن. رحلة البحث عن هوية يناقش فيلم «رجل بلا وطن» اضطهاد المسلمين فى أكثر من دولة انتقل إليها البطل «نواز الدين صديقى»، فمن خلال رحلته للبحث عن حياة جديدة، يضطر للتعلق بهوية أخرى مزيفة واسم وديانة اختارهم له صديقه، ليحصل على وظيفة فى مجتمع جديد لا يرحب بالمسلمين. الفيلم الذى تحمس له بطله ومخرجه «مصطفى سروار فاروقى»، يشكل قصة حقيقية عانى منها كل من انخرط فى هذا المجتمع، وكانت هويته عائقًا أمام تقبله، بل ومحاكمته بسببها وليس بسبب أفعاله، فبسبب لون بشرته ودينه يتعرض البطل طوال الوقت لأزمات فى مجتمع هرب إليه لينجو بنفسه من أزمات طائفية ومادية فى وطنه.. كوميديا سوداء يسخر فيها المخرج من واقع مؤلم، ومعاناة شخص يبحث عن النجاة طوال حياته. «نافين» الشاب المسلم الذى أوهم مجتمعه الجديد وحبيبته كذلك أنه هندوسى لكى يهرب من الاضطهاد، وتبدأ رحلته فى البحث عن الاستقرار، ينتهى به الأمر بفقدان حياته على يد متطرفين بسبب لون بشرته. شاب مضطرب أنهكه الهرب ومحاولات التعايش، لكنه يتغلب على كل هذه المشاكل بالتأقلم والسخرية من نفسه فى مشاهد مصحوبة بخفة ظل وسلاسة فى الأداء، نقلت لنا كم البؤس الذى يعيشه «نافين» إلى أن قُتل على يد متطرفين. «قدحة» بعيون الصغار يتناول فيلم «قدحة» مشاكل وصراعات مختلفة ظهرت فى العالم العربى فى العقود الأخيرة، ولكن بعيون أطفال هذا العالم، الذين تنعكس تلك المشكلات على عالمهم وعلى تكوينهم النفسى، حيث جسد لنا محاولاتهم للتعايش فى ظل هذه الضغوط، وكيف يمكن لعالمهم الصغير أن يترجم كل هذا العبث فى العالم الخارجى. «قدحة» طفل تونسى يفقد أباه فى رحلة هجرة غير شرعية. طفل يجد رفاهيته فى التنزه مع أصدقائه والتحرش اللفظى ومعاكسة الفتيات وتصويرهن فى شوارع تونس. يستعرض المخرج بكاميرته خلال رحلاتهم فى التنزه حالة الفوضى والطبقية من حى إلى آخر. يجد «قدحة» نفسه وقد باعت أمه كليتها لعائلة ثرية لإنقاذ ابنها بمقابل مادى كبير، فتكون صدمته فى والدته التى فعلت هذا بسبب الفقر والعوز. مشاعر الغضب والحزن تُرجمت فى عيون أبطال العمل المراهقين، وأدارها المخرج «أنيس الأسود» بحرفية كبيرة، مصحوبة بموسيقى تصويرية مؤثرة، خاصة فى مشاهد صامتة تترجم كل القهر والألم الذى يعانى منه الطفل.