قضيتُ سنوات المدرسة بسلام نسبى لا يخلو من التوتر الدراسى مع مادتىْ الرياضيات والفيزياء اللتين لم ينسجم معهما عقلى أبدا! مع الخوف من الامتحانات الفجائية فى مادة النحو، وحصة النصوص.. التى أتقنت حفظها خوفا من سن مسطرة أبلة فتحية التى تهبط على أطراف أصابع البنات التى لا تتلو النصوص بالتشكيل الصحيح دون فهم! فنسيتها مع نهاية العام الدراسي.. وكرهت النصوص، وخسرت القدرة على حفظ عشرات الأبيات الشعرية فى سن مبكرة، مثلما أصابنى الهلع الدائم من الامتحانات.. ليومنا هذا! تمتعتُ بفصول الموسيقى، والإذاعة المدرسية، والرقص الإيقاعي، والمكتبة، والزهرات، والرياضة البدنية.. والتدبير المنزلى -الذى كان يلفظ أنفاسه الأخيرة وقتها فى الثمانينيات- أكثر من فصول الدراسة التعليمية نفسها! تلك الأنشطة الفنية والرياضية التى أعتقد أنها ساهمت فى تغذية مداركى وتوجهاتي! ومع ذلك، لم أفكر يومًا فى زيارة أي مدرسة بعدما تركتها، خصوصًا مدرسة شبرا الثانوية للبنات! ليس نكرانًا لجميلها أو إقلالًا من شأنها؛ بالعكس؛ ولكنها المدرسة التى شهدت مرحلة الوعي.. بكل ثقل التجربة التعليمية التى كونت رأيى فى المدرسة والمدرسين والنظام التعليمي، الذى اكتشفت أنه لم يستثمر موهبة عشقى للتعلُّم. عودة أستاذ فاروق اشتُهرت شبرا الثانوية فى الثمانينيات- بأنها مدرسة المتفوقات، وكان الالتحاق بها حُلمًا يضيف إلى سمعة الفتاة وأخلاقها! مع انتشار الحجاب، ودخوله للمدرسة على يدى الأستاذ عبدالرحمن- مدرس اللغة العربية والدين.. يوم أوقف طابور الصباح بصوته الجهورى وملامحه القاسية، ونادى على تلميذة محجبة، وأوقفها فى قلب الملعب ليصفق لها الجميع باعتبارها بنتًا مؤدبة ترتدى زيًا محتشمًا يميزها، وعلى كل من تريد التميُّز أن ترتديه مثلها! كثيرًا ما تمنيت أن يعود بى الزمان لمدرسة العطار الإعدادية التى مارستُ فيها بعض الهوايات ببراءة العمر الجميل، حينما كانت مس لوريس – مدرسة العلوم- ملهمتى بأناقتها وأمانتها. كما مارستُ فيها الغضب والتمرد على قرار نقل الأستاذ فاروق محمد - مدرس اللغة العربية لمدرسة أخرى، فكتبتُ للإدارة التعليمية أسباب اعتقادى بضرورة عودته لتلميذاته اللواتى انقطعت علاقتهن باللغة العربية بعد رحيله، وهو الذى جعل حصته نزهة عقلية مطعمة بالنحو والبلاغة والنصوص. ثم استجابت الإدارة وأعادته للمدرسة، وحصلتُ على درجة متفوقة فى العربي! ولا أنسى مستر شفيق مدرس اللغة الإنجليزية الذى لم يتخل يوما عن بدلته الأنيقة، مثل صوته، وهو ينطق تلك اللغة بأناقة تجعله يبدو صغير السن رغم تجاعيد وجهه وشعره الأبيض، فارتبطت دراسة الإنجليزى عندى بالرقى والكبرياء، وتفوقتُ أيضا فى تلك المادة وحصلتُ على مجموع عام مرتفع أهلنى للالتحاق بمدرسة شبرا الثانوية! سجن المدرسة كانت روحى تنسحب منى فى الطريق إلى شبرا الثانوية! أخافنى اتساعها وضخامة بنائها العريق، الذى قيل أنه كان قصرا لعمر طوسون، شُيِّد عام 1869! بينما أزعجنى ضيق الشوارع المحيطة بها، وإهمال نظافتها؛ كيف تحدثنا الكتب المدرسية عن النظام والنظافة وهى لا تهتم بإزالة القاذورات والقمامة المنتشرة بأنحائها؟ كيف تترك اللون الرمادى غالبا على كل مبانيها وجدرانها؟، ويأتون لنا بمدرسين لم يختاروا تلك المهنة، ومعظمهم كان يسب ويلعن العلم والتعليم؟ فبدأتُ أشجع زميلاتى على مقاطعة التعليم بالمدرسة، وأحثهن على التعليم من البيت، حتى يأتى اليوم الذى تتغير فيه المدرسة وتصبح مكانًا أقرب للمدارس التى كنت أقرأ عنها فى الروايات، وأشاهدها فى المسلسسلات الأمريكية! فكانت بعضهن تنظر لى وتمضى صامتة، وبعضهن تبتسم وتشير لى بالجنون، أما بعضهن فاعترفت بأن المدرسة مجرد مخرج من البيت لتقابل الناس، ووسيلة لقضاء الوقت بعيدا عن خدمة الأسرة وشغل البيت! مضى العام الأول كئيبا مثل كآبة مدرس اللغة العربية العائد بغير إرادته من إحدى الدول العربية، وكان دائمًا مهمومًا بائسًا، يقارن بين راتبه بهذه المدرسة وما كان يتقاضاه فى الخليج! فتمضى حصته كالكابوس، وأنا القادمة من عالم أستاذ فاروق الرحب الباسم! بالإضافة لقسوة وجمود مس كريمة مدرسة الكيمياء، بينما كانت مدرسة اللغة الفرنسية تتفنن فى طردنا من الفصل لأى سبب، فكَرَهتُ اللغة رغم إعجابى بها عبر الأغنيات الفرنسية براديو مونت كارلو! وكرهتُ المدرسة، رغم تشجيع أمى الدائم من خلال تذكيرى بأنها مدرسة البنات المتفوقة! لا أنسى كيف أشعلت مس علية حماسى فى تعلم اللغة الإجليزية، بجمالها الإنجليري، وطريقة نطقها للحروف، وأسلوب كتابتها على السبورة.التى كانت تذكرنى بمستر شفيق.. رغم إدراكى فيما بعد أن تعلُّم اللغة والرياضيات هى موهبة وقدرة كموهبة تعلُّم الموسيقى..لا يتمتع بها كل الناس، ولا يجب أن نتهم أحدا بالفشل لعدم قدرته على تعلمها! حوت دروس خصوصية أما حصة التاريخ، بمعلمته التى كانت فى عمر جدتي، فكانت المتنفس الوحيد لعقلى الذى كان يبحث فى هذا العمر عن متعة الاكتشاف، التى وجدتها مع تاريخ الثورة الصناعية فى أوروبا، فظللتُ محتفظة بكتاب التاريخ لزمن قريب! وأستاذ عبدالحميد.. مدرس اللغة العربية بالثانوية العامة الذى شجعنى لاستخدام كراسة التعبير المدرسية فى كتابة قصصى القصيرة وأشعارى ليصححها لي، ولا أعرف كيف ربطت وقتها بين التعبير والحرية! ولا أنسى أستاذ محمد نجيب، مدرس الفيزياء بالصف الثانى الثانوى الذى أحببته.. ليس فقط لأنه كان شبيها برشدى أباظة، ولكن لأنه المدرس الذى استلطف ابتسامتى بين الزميلات فى إحدى الصور، رغم كراهيتى لملامحى فى ذلك العمر! بعدها قررتً -لأول مرة فى حياتي- الالتحاق بمجموعات التقوية التى ينظمها؛ لأراه! وكانت النتيجة أننى نسيت الفيزياء، ومُحيت من رأسى تماما فى امتحان الثانوية العامة! ما يجعلنى أتعجب اليوم، لماذا لم يحرص على تفوقى فى مادته؟ أو لعله كان يتوقع أن يتحول إعجابى به لدرس خصوصي؟ فقد كان مشهورا بأنه حوت دروس خصوصية! ولا أنسى الحوار الذى أجريته معه ونشرته فى مجلة حائط المدرسة التى أطلقت عليها «أوتار»! وقد أزيلت بعد عددين أو أكثر، بعدما تجرأتُ على انتقاد بعض أساليب التعليم المدرسي، وقارنتُ بينها وبين أساليب التعليم الأمريكي! فحصلت على إعجاب بعض الزميلات، وكونت من خلالها بعض الصداقات، ثم قيل لى أنها أزيلت لأننى لم أحصل على تصريح من الإدارة المدرسية! أبتسم اليوم، كلما أتذكر أستاذ أحمد عصام مدرس الفيزياء الذى كان دائم التشجيع لمواهبى الأدبية والصحافية، حينما ملأت المدرسة أنشطة وفنونا ومجلات حائط جريئة أخرى، خصوصًا بعد زيارة الكاتب الكبير مصطفى أمين للمدرسة، ضمن البرنامج الثقافى بالإذاعة المدرسية، وعرضتُ عليه بعض خواطرى وأفكاري، فنصحنى بزيارته فى مكتبه بأخباراليوم، وفعلت! لو عاد الزمان حينما قرأتُ مقالى هذا على ناهد ضيف صديقتى منذ أيام المدرسة، ضحكت قائلة: ما كل هذا؟ لولا تفتح وتشجيع أسرتينا لنا لما قرأنا ولا فكرنا! ولكن شكرا للمدرسة التى عرفتنا ببعض! سألتُ إيمان، فقالت: أغلب مدارس مرحلتنا لم تعلمنا سوى القراءة والكتابة.. وبعض المعلومات العامة التى كان يمكن أن نجدها فى أى كتاب ومكتبة! أما طلبة المدراس الخاصة، والدولية، ومدراس الراهبات فهم أكثر ثقة فى النفس، وأكثر قدرة على وضوح الرؤية والتفكير، والنقد والتحليل! وقالت نوران: المدرسة فى زماننا كانت منتدى لالتقاء البنات، ووسيلة لنلتحق بالجامعة ونرفع رأس أهالينا.. ونعمل لنتزوج، وليس أكثر! لو عاد بى الزمان، لشعرت نفس الشعور بالرغبة فى هجر المدرسة التى قهرتنى ألف مرة، منذ عاملتنى كرقم، ولم تشعرنى بالتميُّز، ورسخت تفاهة المنافسة والتفوق القائمة على الحفظ لا الفهم؛ بإجبارى على تعلم بعض المواد التى لا أحبها ولم أستفد منها! ولأنها لم تؤهلنى للالتحاق بالتعليم الجامعى الذى يناسب مواهبي! ولم تشجعنى على ممارسة مواهبي.. بل علمتنى أن الحياة غير عادلة؛ حيث تستطيع درجات الثانوية العامة فى عام واحد فقط أن تغير مصيرى كله - مهما كانت ظروفي-! ولأنها لم تهتم بالثقافة ولا تعديل السلوك، ولم تهتم بتنمية الجمال حولي! ولأنها أضاعت أجمل سنوات عمرى فى هلع الخوف من الفشل الدراسي، والرغبة فى التفوق الشكلي، بل ساهمت فى تشويه المجتمع حولي، واكتشاف مساوئ الآخر! ورغم ذ لك، أعتقد أن جيلنا كان آخر الأجيال التى تمتعت بالمدرسة، بالمقارنة مع ما نراه ونعيشه اليوم!