سيكون العالم مختلفًا بعد غزو فيروس كوفيد19 حياتنا، من المستبعد أن نعود إلى نفس الحياة، وسيكون العمل مختلفًا، والترفيه مختلفًا، والخدمات ستقدم بشكل مختلف.. وحتى ذلك الوقت، نحن بحاجة إلى مزيد من التكيُّف والابتكار .. ومحتاجون لإطلاق العنان لأفكارنا: كيف سيكون شكل العالم من حولنا فيما بعد؟...
ربما ستفتح المطارات قريبًا .. ولكن هل سنرى المسافرين يتقاسمين الهواء نفسه فى الطائرة، أم نرى كل واحد فى كبسولة خاصة. ربما تفتح المطاعم ونرى بين المائدة والأخرى حاجزًا زجاجيًا. ربما يعود الحاجز الزجاجى أيضا بين السائق والزبون فى سيارات الأجرة. ربما ستستقبلنا الروبوتات فى صالونات الحلاقة، وفى الأسواق، وفى المصالح الحكومية.
ما يواجهه الناس بسبب تفشى كورونا قاس ولم يختبروه من قبل ..حتى الشعوب التى تواجه الحروب والنزاعات المسلحة، كانت تمتلك إمكانية أن تهرب منها وتلجأ إلى دول أخرى بحثًا عن الأمان، وتصنع بداية جديدة هناك، لكن مع الوباء القاتل فلا مكان تهرب إليه إلا البيت. ولم يكن أمام صانعى القرار فى العالم إلا الإغلاق الشامل لنواحى الحياة كافة. لم تكن جائحة كورونا وتبعاتها تخطر على بال أى من واضعى الخطط والبرامج التنموية، سواء كانت حكومات أو مؤسسات دولية أو مؤسسات مدنية محلية، وتحديدًا فى الأشهر الأخيرة من السنة الفائتة عندما وضعت خطط العام 2020 وحددت أهدافها وتمت الموافقات على التمويل حسب الخطط المقترحة.. وعند اجتياح الوباء فاجأتنا منظمات إنسانية متمرسة فى العمل الإنسانى ومواجهة الأزمات، بشللها التام، فأوقفت برامجها لمناهضة العنف فى المدارس بسبب إغلاق المدارس، وأوقفت برامجها لتعزيز الحماية للأطفال بسبب قوانين عدم التجمع إلا للضرورة، وتوقفت العمليات الجراحية المجانية أوالمدعومة لأن الطواقم الطبية تواجه نقصًا فى الأفراد وفى المعدات، وأغلقت المنظمات العاملة مع اللاجئين أبوابها وأبقت على التواصل التليفونى مع علمها بالحاجة الماسة لمساندة اللاجئين فى مثل هذه الأوقات.
تألق هنا وشلل هناك
لم يصب الشلل القطاع العامل فى خدمة المجتمع كاملًا، بل كانت هناك مبادرات فردية وجماعية هنا وهناك تحركها روح تطوعية شابة وشجاعة. فى سوريا، وتحت ظروف صعبة يواجهها السوريون بعد حرب دامية، وبنية تحتية شبه مدمرة، بدأنا نسمع عن المبادرات الفردية فى البداية؛ فهذه ورشة خياطة توقف عملها بسبب إغلاق الأسواق فتحولت إلى خياطة كمامات، وهذه سيدة كانت تصنع طعامًا بيتيًا وتبيعه للمطاعم تحولت لصناعة وجبات يومية طازجة توزع على الأطباء والممرضين العاملين فى المشافى لمكافحة الكورونا. بعض المؤسسات المجتمعية المحلية الصغيرة فى أطراف سوريا حيث تراجعت سلطة الدولة، انتفضت من شللها وحولت برامجها إلى حملات تعقيم أماكن تجمعات وتنفيذ جلسات توعية حول فيروس كورونا وطرق انتشاره وطرق الوقاية منه. ربما كان هذا متوقعًا، ولكن المدهش فى الأمر توقُّف المنظمات الدولية التى تقدم العون للمهمشين والمحرومين والهاربين من النزاعات المسلحة، فهى أساسًا أقيمت لتلبية احتياجات بشرية أساسية مثل الجوع والحرمان والحاجة إلى الحماية وتقديم العلاج والمأوى .. فنجدها قد أحجمت عن الاستجابة السريعة، بسبب أن خطتها السنوية لم تكن بهذا الاتجاه، أو أن آلية صرف الأموال لا تغطى الحالات الطارئة أو أن الموافقات على تغيير الخطط ستأخذ الكثير من الوقت بسبب البيروقراطية التى تضخمت فى المنظمات الدولية على حساب سرعة الاستجابة للمحتاجين. بينما نجد الاستجابة عالية وسريعة فى الجمعيات الأهلية المحلية، ونراها وقد تكيفت مع الاحتياجات وابتكرت أساليب جديدة وطرقًا للتطوع وتقديم الخدمات والحشد والمناصرة، وحتى إنها أجرت تعديلا على أولوياتها، وآليات تحركها للوصول إلى المستفيدين فى بيوتهم وأماكن تواجدهم . بعض وسائل الإعلان الصغيرة صممت مطبوعات تعريفية بالوباء وطبعتها ووزعتها عبر متطوعين على الناس فى الطرقات.
وفى مصر، قامت مؤسسات خيرية بجهود تزايدت شيئا فشيئا بعد مساهمات رجال أعمال وفنانين بتوزيع سلل غذائية على الأسر التى تعرض دخلها للتوقف بسبب الإغلاق.
وسمعنا فى بلاد أخرى عن طواقم شراء الحاجيات للمسنين والمعزولين، والطواقم التى نزلت إلى الملاجئ والمخيمات لنشر المعلومات عن الفيروس وطرق انتشاره وتوزيع كمامات وقفازات ومعقمات للمساهمة فى الوقاية، ولم يحبطها التأثير البسيط الذى تحدثه فى مواجهة وباء عالمى يحصد الآلاف من الضحايا أو توقف الدعم من المنظمات الدولية الضخمة.
المبدعون هم المتكيفون
زود الله الإنسان بخاصة مهمة ستنقذه دائما من الظروف المتغيرة التى تبدو قاسية وغير رحيمة، وهى التكيف والإبداع، والتكيف بمفهومه الإيجابى أن تستطيع أن تكمل حياتك وتحصل على احتياجاتك بالاستفادة مما تتيحه لك الظروف المتغيرة من حولك. فتواجه قلة الموارد بابتكارات تحقق لك احتياجاتك بالاعتماد على موارد متوفرة لم تكن تلتفت إليها، وهذه القدرة على التكيف بخلق طرق جديدة تسمى:«الإبداع».
بعض أصحاب المطاعم الذين أجبرهم الإغلاق التام على إقفال مطاعمهم، وتكويم المقاعد والطاولات فى زاوية من الصالة الضخمة المزينة، لجأوا الى تطبيق إلكترونى على منصات التواصل الاجتماعى وإلى جيش من فتيان التوصيل(الدليفري) ليوزعوا عبره منتجهم ويحافظوا على خط إنتاجهم، ويصبح التنافس باتجاه الطعم والنظافة ومطابقة الشروط الصحية، بدلًا من التركيز على المظاهر الخادعة والعلامات التجارية المشهورة.
وتبارى أصحاب المعامل والمنتجون فى عرض منتجاتهم بالتفصيل أونلاين ويسهلون عمليات الدفع والتوصيل عبر الوسائل الإلكترونية.
فيما تفتح المتاحف أبوابها للجمهور عبر بوابات إلكترونية وزيارات افتراضية، ومدارس انتقلت إلى ممارسة التعليم عن بعد، وبدأ مدرسون ينجزون دروسًا مسجلة ودروسًا بالبث المباشر ..
كل تلك الحركة المتغيرة المدهشة من أنواع التكيف الإنسانى مع الأزمة، والإبداع فى ابتكار حلول مختلفة لمشاكل خلقتها هذه الأزمة، نجد مقابلها أنّ الكثيرين لايزالون يختارون أن يعتبروها أزمة طارئة، وأنّ الحال سيعود إلى سابق عهده قريبا..ولكن، مع الأسف، الدراسات الكثيرة والتقارير الطبية لاتزال قاصرة عن إعطائنا تأكيدات بهذا الخصوص ..
هذا يجعل السؤال الكبير أمام كل واحد منا عند ظهور الأزمات، فى أى فريق يجب أن أكون؟ مع المنتظرين؟ أم مع المتكيفين؟ وهل أمتلك من القدرة على الإبداع ما يكفينى لأكمل الحياة فى متغيراتها القادمة ؟