يبدو أن الحالة النفسية والعقلية التى تعيشها أمريكا فى الوقت الراهن سوف ترافقها بشكل أو آخر فى الشهور المقبلة وغالبًا لفترة قد تطول أكثر. وهى حالة مزدحمة وصاخبة بعلامات الاستفهام والتعجب.. من الصعب العثور معها على الإجابات النموذجية أو الإجابات التى تزيح الهَمَّ وتريح البال.أو تلك التى تسحبك من مناطق القلق والخوف من الحاضر المضطرب أو من القادم اللا معلوم. ولذا يلزم التحذير والتنبيه (وآسفين للإزعاج) من مدعى الأجوبة الحاسمة والمعرفة ببواطن الأمور وأصحاب النصائح المُعلبة لمواجهة الأزمات. أسئلة الساعة!! الأسئلة بالتأكيد عديدة والإجابات بلا شك غير حاسمة حتى كتابة هذه السطور.. إلا أننا فى كل الأحوال علينا أن نسأل.. وأن نتساءل.. أولًا: متى سنخرج من حبسة العَزل أو الحَجْر المفروض بسبب كورونا؟ لا أحد بالفعل يعرف، وإن كان الكل يتمنى أن يحدث هذا فى القريب العاجل. وإن كان هذا العاجل غالبًا لا يعنى أيامًا، بل أسابيع، وفى الغالب شهورًا قبل أن تسترد أمريكا عافيتها. وهذا ليس بالقرار السياسى أو قرار الرئيس ترامب (كما قال ويود فى أول مايو) أو حتى قرار حكام الولايات؛ وإنما التعافى فى رأى أغلب أصحاب الخبرة والتجربة سوف يحتاج إلى ثقة الناس الذين يعيشون هذا الواقع ويعانون من هذا الواقع الذى أتى به كورونا. وأن الأمريكى بوجه عام يجب أن يشعر بأمان وطمأنينة لما تم تحقيقه بهذا الخصوص قبل أن يقبل على مظاهر الحياة اليومية فى المجتمع الأمريكى.. والتساؤلات والشكوك بخصوص هذا الأمر لاتزال قائمة ومستمرة لحين إشعار آخر.. ولعل من أهم التعبيرات التى وردت فى يوم ما على لسان د. أنتونى فاوتشى الطبيب العالم المتخصص فى علم الأوبئة وأحد أبرز أعضاء الفريق الرئاسى لمواجهة كوفيد -19 ما معناه: .. فى هذه المواجهة لا نقوم نحن بوضع جدولنا الزمنى بل فيروس كورونا هو الذى فى يده زمام الأمور.. والجدول الزمنى!! ثانيا: متى سنجد العلاج أو المصل المضاد؟ نعم المعامل العلمية والبيولوجية المتخصصة تعمل ليل نهار. بالنسبة لما يمكن تسميته بالعلاج لا يوجد حتى الآن. ما يتم الحديث عنه والإشارة إليه من خيارات أو اختيارات كعلاج هى تجارب قد تنجح أو تفشل. ومثل هذه الخيارات فى العُرف الطبى لا تعد علاجًا آمنًا يمكن الاستعانة به. أمّا بالنسبة للأمصال فهناك نحو 70 نوع مصل محتمل يتم تركيبه أو تصنيعه معمليّا فى الوقت الحالى (كما قالت منظمة الصحة العالمية). وأى مصل فى حاجة إلى 42 يومًا على الأقل قبل أن يتم تجريبه بشريّا. وبالتأكيد ذكرت فى الأسابيع الأخيرة أن أموالًا ضخمة تقدر بمليارات تم تخصيصها لشركات عريقة فى مجال الأمصال، إلّا أن كلما تحدّث خبير فى هذا المجال ذكر ليس أقل من سنة أو 18 شهرًا قبل الوصول إلى استخدام المصل المطلوب والمنتظر! ثالثا السؤال الأكثر إلحاحًا: متى سنعود إلى أعمالنا ووظائفنا وحياتنا المعتادة؟ (وإن كان المعتاد صار خبر كان) وبالتالى إن عُدنا كيف ستتغير طبيعة آلية عمل المكاتب والمدارس والمستشفيات ووسائل النقل العام وملاعب الرياضة وأماكن اللهو والترفيه والشواطئ كل هذا على سبيل المثال وليس الحصر؟- هل سوف يبقى معنا وإلى أجل غير مسمى كمامة الوجه؟ وأيضًا ما تم تسميته ب الابتعاد الاجتماعى؟ الذى يتم قياسه فى أمريكا ب ستة أقدام؟ وماذا عن العمل والتعليم والتواصل عن البُعد أو أونلاين؟ وفى إعادة هيكلة حياتنا بشكل عام كم تبلغ نسبة العاملين الذين سيتم الاستغناء عنهم وعن خدماتهم؟ مع الأسبوع الرابع للحظر الشامل وتوقف حركة المجتمع والاقتصاد الأمريكى بلغ عدد من صاروا (رسميّا) فى قائمة البطالة 22 مليونًا والزيادة مستمرة فى أغلب الأحوال مع الأخذ فى الاعتبار أن ملايين آخرين فقدوا مصادر دخلهم الأساسية أو الإضافية سواء كانت يومية أو أسبوعية. ويبقى السؤال- الأكثر تكرارًا: ما هى الأساليب أو الوسائط المختلفة التى سوف تستخدم أو سيتم توظيفها مستقبلًا من أجل ضمان عدم تكرار الأزمة أو الكارثة التى لحقت بأمريكا والعالم كله؟ لقطة جديرة بالتأمل بعد أن صارت مدينة نيويورك العاصمة العالمية لكوفيد 19 كان من الطبيعى أن تتجه أنظار شعوب العالم وأنظار أهل أمريكا إليها. وأن يتساءلوا بحسرة: ماذا حدث للمدينة الساحرة المبهرة وأهلها أصحاب الرغبة العارمة فى الحياة والاستمتاع بها.. أرباب الإبداع والابتكار والخيال فى كل الفنون بعد انتشار كورونا فيها. ولا شك أن حكايات الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات سوف تكون على مدى سنوات حواديت نود سماعها لكى نعرف أكثر وأكثر عن إنسانية الإنسان أينما كان.. وأيما كانت الظروف القاسية التى تحيط به وقد تبعده عن أحبابه.. وعن أسرته وأولاده؛ لأن الحظر مطلوب والفيروس شرس. . منذ أيام قليلة قرأتُ ما قاله طبيب وهو يتحدث عن التحدى والإنسان واللمسة فى حياتنا. هذا الطبيب الذى يعمل فى قسم الطوارئ بأحد المستشفيات العامة بنيويورك قال: .. لقد كنتُ أعتقد بأننى كنت مستعدّا لمواجهة ما قد يأتى فى أى لحظة. إلّا أنه تبين لى .. لا، لم أكن. ولأن ما يعيشه ويعيش معه زملاؤه وزميلاته يحمل يوميّا المزيد من آلام النفس فى تعامله مع المصابين بكورونا يتحدث عن مشاعره وأحاسيسه فى هذه الأجواء قائلًا:عادة كنت أتذكر المرضى بوجوههم. إلّا أنهم فى وضعنا الحالى يرتدون الكمامة. وبالتالى كل ما أراه هو عيونهم.. التى فى غالب الأحيان تكون مغمضة.. ويقول أيضًا: أنظر إلى يدى أنا وأراها بالقفاز المطاطى.. تقبض على يد المريضة الرقيقة والشاحبة. وبالطبع لا أحب أنها لا تتلقى لمسة يد إنسانية حقيقية قبل أن تفارق الحياة.. ودنيانا.. زغزغة الدماغ إنها تعبير تبنته صحيفة «نيويورك تايمز» منذ أكثر من أسبوع وهى تقدم بابًا جديدًا للتسلية المفيدة وتمضية الوقت لقرائها الأعزاء. بابًا جديدًا بجانب الكلمات المتقاطعة وأبوابًا أخرى تسعى من خلالها الصحيفة العريقة أن تقدم المادة المفيدة لعقل ونفس القارئ للصحيفة الورقية أو المشترك لنسختها الرقمية. زغزغة الدماغ كتعبير يذكرنى بما كتبه من قبل د. يوسف إدريس وهو يتحدث عن دور الكلمة والكاتب والمقالات التى تنشرها الصحف أو المجلات. صحيفة «نيويورك تايمز» وهى تقدم وجبة كاملة وشاملة من الصحافة الجادة والمفيدة والمسلية تميزت فى الفترة الأخيرة بأنها بجانب التغطية الإعلامية الموسعة والمعمقة ل «كورونا» وتبعاته قدمت ملاحق وصفحات تهتم بأمور الأسر وهى تواجه الحظر أو عدم الخروج من المنازل.. ومنها صفحات لتوسيع مدارك وشغل أوقات الأطفال والمراهقين من مادة صحفية معلوماتية ومسلية فى الوقت نفسه. كما أنها نشرت صفحات للتلوين للصغار والكبار أيضًا. والمعروف أن كتُب التلوين للكبار صارت شعبية جدّا فى السنوات الأخيرة؛ لأنها كما وصفت تساعد على رخرخة الأعصاب أو رحرحة النفس. وما أحوجنا إلى هذه الرحرحة فى هذا الزمن المتنشن!! ولا مانع طبعًا من زغزغة الدماغ أيضًا.. طالما يوجد وقت للقيام به. عفوًا .. لأن المواجهة مستمرة والمعركة مع العدو المستتر لم تنته بعد؛ فإن القفز إلى الاستنتاجات فى الوقت الحالى حول ما يمكن حدوثه أو الوصول إليه فى مرحلة ما بعد كورونا يعد ضربًا من الخيال.. أو التنجيم (إذا جاز هذا التعبير). الاجتهادات الفكرية بالتأكيد مهمة وضرورية طالما تتوافر فيها المعرفة والخبرة والجدية فى التعامل. أما غير ذلك من طرطشة كلام مصاطب يعنى نحن فى غنى عنها. ويبدو أنها صارت ملمحًا عالميّا؛ خصوصًا على شاشات التليفزيون وعلى صفحات الرأى بالصحف، وخصوصًا حينما نجد أن ما يُقال وما يُكتب يدخل فى متاهات التمنيات أو التوهمات أو ما يمكن تسميته بالخزعبلات الجيوسياسية الاستراتيجية. لا أحد يعرف ولا يستطيع أن يعرف فى هذا الوقت إلى أين سوف يأخذنا «كورونا» فى المستقبل القريب والبعيد معًا.