فى محطة مصر يجتمع ناسها وتتلاقى شخوصها. من بحرى أو من قبلى. يجتمع فيهم الكبرياء والتواضع والسعى لتحقيق الآمال.نلتقط مزاج اللحظة دون تدخل فيما قبلها أو بعدها.يجسدون كبرياء الفرعون وصلابة الجنوبى ووجع المكافح.هى وثيقة لمجتمع ننتمى إليه..وناس نخلد وجوههم.. وجه مصرى وملابس أوروبية بالكوفية الملونة والبالطو شديد الأناقة، ينتظر فى هدوء لا يشبه تعجل أبناء القاهرة على رصيف القطار المتجه إلى الإسكندرية، ممسكًا بكتاب يظهر من غلافه أنه من نوع الروايات الكلاسيكية، لم يحدثنا باستفاضة عن قراءات تكشف ثقافته وميوله، أعانه عليها شغف باللغات الأجنبية.. على قمتها إجادته للغة العربية فصحى وعامية – فضلا عن معرفة وثيقة بالأدب العالمى، شب عليها عبر مكتبة والده «طه الفخرانى» التى آلت إليه فيما بعد أثناء دراسته فى جامعة الإسكندرية. علينا أن ننتبه إلى عناصر جديدة ستقتحم شخصية عادل، منها أدب السوشيال ميديا وحكاواه المسلية أحيانًا، التافهة غالبا، التى أصبحت مع الأسف عنوانًا وبوابة ضخمة للحضارة الجديدة، التى يمكن أن نطلق عليها آسفين حضارة «النميمة» أو «الروبيضة»، هو لم يذب فى الحضارة الجديدة ولم ينخرط فيها؛ فليس لديه حسابات على السوشيال ميديا، ولكن ابنتيه تجبرانه على مطالعة بعض ما تدونانه، عصمته حضارة بلاده وتاريخها، وخبراته الشخصية الثرية، وانحيازاته الوطنية الواضحة للناس والأرض عن أحاديث النميمة. لا شك أن حياته فى الغرب – فيينا تحديدا - قد جعلته يقارن رغمًا عنه بين حاضر الغرب وماضى بلاده، انتصر فيها لحضارة بلاده بوصفها منبع النور ومهد الديانات. عاد إلى مصر باختياره، يتجرع الذكريات، بعدد الشوارع التى تذكرها، وتعطر بعطرها، والتحف بسمائها، وعادت إليه رائحة الثرى الذى لا يدرى لماذا كان يشاهده ذهبيا فى مخيلته رواية كتبها من الأعماق، فى الوجدان، فى الشريان، بمداد قلبه، تبدأ روايته بشربة ماء فى قارب وسط النيل، وتنتهى بالاستحمام مدفونا بين أمواج ثغر المتوسط فى ديسمبر، على شاطئ ميامى، يخلد بها قصة غرام لبلاد طيبة الحرة. هو بالفعل لديه تجربة عاطفية بدأت من فوق رمال أحد الشواطئ، مضى عليها نحو عقدين من الزمان، انتهت نهاية حزينة بسبب ضيق ذات اليد - وقتها - الآن يشعر أنه أقوى كثيرا مما كان عليه وقتها، ففى حوزته الدولارات والمركز المرموق، ولكنه الآن لا يستطيع استعادة قصة حبه، فالقدر والغياب أقوى وأكثر عنفا وشراسة. أصبح لديه صغيران من قصة جديدة نشأت واكتلمت على ضفاف نهر متجمد، احتاج منه إلى قوة لإذابة جليده، مع حبيبة أصبحت زوجته الأوروبية الشقراء، وكان نتاج الحب، الإنجاب، وفتح نوافذ للعمل ولقمة العيش، أصبحت قوة حبه فى ميامى ذكرى، وحبه الجليدى فى بلاد الغربة واقعًا.. لا يمكنه أن يشير إليها مع أولاده إلا بقتضاب، وإلا أصبح خائنًا بالمشاعر، حتى الصورة القديمة التى تجمعه ببنت بلده، تمزقت، واختفت من الألبوم. عاد من أوروبا هذه المرة، ليتذوق الإحساس الغامر بطعم الحرية، عاد من الصقيع وبرودة العلاقات الإنسانية، عاد فى هذه المرة ليلملم أشياءه ويبحث عن مرفأ، بعد أن اشتد تعبه وتصبب عرقه، من طول سنوات العمل الشاق ليلًا ونهارًا، مقررًا العودة إلى بقايا الذكريات، يجمع شتاتها فى سباق مع الأمواج التى تسعى لدفنها، إنه يعترف بأنه لم يخلص فى سرد حكايته العاطفية لأولاده، لم يوثقها كما ينبغى، كما فعل عباس محمود العقاد فى روايته الذاتية «سارة»، ولكنه كبتها سنوات وقت أن كانت «جمرة» فى قلبه، ووجد لزاما عليه أن يكتوى فى صمت بنيرانها التى لم تتحول بعد إلى رماد، حتى زادها هوى البحر احمرارًا واشتعالًا.استأذن بدموعه حتى يلحق بقطار الإسكندرية على رصيف 4، هو ذاهب مباشرة إلى شاطئ ميامى.. فهل يجدها؟!