تألقت مدينة بور سعيد بأنوار ليس مصدرها الكهرباء، إنما هى أنوار تُشِعها عقول وأقلام وأحلام عدد يزيد على 350 شاعرا وروائيا وكاتب قصة قصيرة وناقدا، جاءوا من شتى المحافظات ونوادى الأدب المنتشرة على أرض مصر من أسوان إلى الإسكندرية، ومن سيناء إلى الوادى الجديد، ومن الغردقة إلى القاهرة. تنوعت اللهجات وقصائد الشعر وسرديات القصص وتقييمات النقد ورؤى الفكر، وتماهَى الجميع مع أجواءالمدينة الباسلة المضيافة أُم النضال وأعراس النصر، ومع أبنائها المبدعين أدبا ومسرحا وموسيقى وغناء، تُضارع أصواتُ أصحابه نجومَ الغناء بالعاصمة، صدحت أغانيهم وموسيقاهم من خلال الحفلات الفنية التى توهج بها مسرح المركز الثقافى الشاهق فى قلب المدينة. وتَقَدَم حفلَ الافتتاح محافظُها العاشق للفنون والثقافة اللواء عادل الغضبان، مُرَحِبا بحشود الأدباء والمسئولين عن الثقافة وعلى رأسهم الدكتورة إيناس عبدالدايم وزيرة الثقافة والدكتور أحمد عواض رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة. المناسبة هى إقامة الدورة 34 لمؤتمر أدباء مصر، وقد حملت اسم الشاعر الخالد بيرم التونسى، حيث رحبت بورسعيد باستضافتها بين 9 - 12 ديسمبر الجارى وتتولى هيئة قصور الثقافة إقامة المؤتمر كل عام بعاصمة إحدى المحافظات بالتعاون مع الأمانة العامة لنوادى الأدب فى مصر، وتشرفتُ بانتخابها إياى رئيسا لهذه الدورة، غير أن الطابع الاحتفالى المُشِع بالدفء، متضمنا تكريم عشرات الأدباء الذين رحلوا خلال العام، وغيرهم من الأدباء الأحياء من مختلف المحافظات. لم يَطغَ على الجلسات الأربعين حول المحور الرئيس للمؤتمر وهو: «الحراك الثقافى وأزمة الوعى.. إبداعا وتلقيا»، وهو يعد اختزالا لأكبر مشكلة تواجه المرحلة الراهنة فى مجتمعنا، بما يجعلها العائق الأخطر أمام النهوض والتقدم، وأمام إحداث التغيير الفكرى المنشود لمواجهة الإرهاب وأفكار التخلف والرجعية، والقضاء على الأمية بنوعيها الهجائى والثقافى، وبالتوازى مع هذه الجلسات عُقِدالكثير من الأمسيات الشعرية والندوات الأدبية فى بعض المواقع الجماهيرية، بين الجامعة والمدارس ومراكز الشباب وبيوت الثقافة، حيث تفاعل أرباب القلم والخيال مع عقول الشباب ومشاعرهم فى تلك المواقع، ليعيدوا بناء الجسور المقطوعة بين الثقافة والناس، وليترجِموا عمليا رسالة المؤتمر إلى فعل ملموس. المؤتمر بهذا الحراك هو مبادرة قوية واجهت عدة تحديات، ذكرتُ بعضها فى كلمتى الافتتاحية للمؤتمر حين قلت: «إن مجتمعا يتراجع فيه انتشار الأدب والفنون الرفيعة إلى أدنى درجات سلم الأولويات الاجتماعية، هو مجتمع يسير على قدم واحدة ويعيش بالنصف الأسفل من جسده، ومهما تم إشباع حاجاته الأولية فسوف تلازمه أنيميا العقل والإبداع والقيم العليا، وإن عمليات إرهابية تقتل كل حين عشرات الأبرياء باسم الدين وتعمل على هدم الوطن0، لا تكفى قبضة الأمن للقضاء عليها مهما كان بأسها، ذلك أن قوة الإرهاب لا تُحسَب فى دائرة الجريمة بل فى دائرة الفراغ الثقافى الذى تملأه ثقافة دخيلة تؤدى إلى ازدهار الجهل، على أرضية اجتماعية مهيأة لنمو بذور الإرهاب، وبنفس القدر فإن هذه الأرضية التى غابت عنها الثقافة تقوم على علاقات عائلية مغلقة وفكر عائد من زمن عتيق لا يصلح للحاضر والمستقبل، بل يناسب مجتمعا تواكليا مُغَيٌبا لم يدخل عصر الحداثة، بما يتطلبه من قيم العقل والتنوير. وهكذا نجد أن عجلة الثقافة والفكر تتجه إلى الخلف لا إلى الأمام، وإن نخبة الأمة وطليعتها المتمثلة فى أدبائها وفنانيها ومثقفيها فى كل المحافظات، حين تتجاهل هذه التحديات وتكتفى بمخاطبة بعضها البعض أو مخاطبة شريحة النصف فى المائة من الشعب - وهى غير مهمومة بالقطيعة الثقافية معه - إنما تتخلى عن دورها الوجودى فى تغيير هذه الأوضاع، وفى مطالبة الدولة بكل قوة، بإرساء رؤية استراتيجية لبناء وعى وذائقة الشعب، لوضع الحكومات أمام مسئوليتها الدستورية كى تتبنى مشروعات التنمية الثقافية بإرادة سياسية مُمَنهجة، فى إطار التحول إلى مجتمع حداثى، بما يتطلبه ذلك من تخطيط علمى وتمويل يكفى لإيقاد مشاعل التنوير، والانتقال بها - مع ثمار الآداب والفنون - إلى كل بقعة من أرض الوطن كما تنص مواد دستور 2014». لهذا فقد حرصنا، فى لجنة صياغة توصيات المؤتمر، بعد مناقشات مطولة فى ضوء ما تقدم به المشاركون من مقترحات، وما أثير خلال الجلسات والأبحاث المقدمة من آراء، على أن تكون على رأسها التوصية التالية: «ضرورة إقرار استراتيجية وطنية للثقافة، تعمل على توظيف قدرات الدولة والمؤسسات المعنية لصالح الحفاظ على الهوية ورفع الوعى وتنمية العقل النقدى، ويؤكد المؤتمر دعمه الثابت للدولة فى مواجهة الإرهاب ومجابهة التيارات المتطرفة». وقد وردت هذه التوصية بعد التأكيد على توصيات الدورات السابقة، خاصة الموقف المبدئى الثابت لمثقفى مصر وأدبائها برفض التطبيع مع العدو الصهيونى، والدعوة إلى كفالة حرية التعبير، ورفض وصاية المؤسسات الرقابية والدينية على الإبداع والفكر، وتلبية الاحتياجات الثقافية للمناطق الحدودية النائية، وبجانب ذلك طالبت توصية ثالثة بتطوير مناهج اللغة العربية بمراحل التعليم وتحديثها بنماذج من الابداع المعاصر، ودعت توصية رابعة إلى تعزيز برامج الحماية الاجتماعية لتقليص معدلات الفقر وتحسين المعيشة والوصول بثمار التنمية وعوائد الثروة إلى كل فئات المجتمع، وتوصية خامسة نادت بالحفاظ على التراث المعمارى واستعادة الطابع الجمالى للشوارع والميادين، ووضع كود بِناء موحد يضمن القضاء على حالة التشوه البصرى التى تنعكس على وعى الأفراد وثقافتهم. وجاءت أهم التوصيات الخاصة ببورسعيد مُطالِبةً بإقامة تمثال لنحات مصرى عند مدخل قناة السويس يجسد كفاح المصريين فى حفر القناة، ونقل تمثال «دى ليسبس» إلى متحف بورسعيد القومى بوصفه جزءا من الماضى، أما التوصية الأخيرة فهى العمل على تأسيس صندوق تكافل لرعاية المثقفين والمبدعين، ووضع الصيغ التنفيذية والمالية لضمان استدامته وكفاءة الاضطلاع بدوره. وتجدر الإشارة إلى أن نجاح المؤتمر كان وراءه كتيبة جنود من هيئة قصور الثقافة وعلى رأسها د.أحمد عواض، ود.هانى كمال رئيس الإدارة المركزية للشئون الثقافية، يؤازرهما الأستاذ محمد البسيونى..المستشار الثقافى لمحافظ بورسعيد، فضلا عن أعضاء لجنة الإعداد للمؤتمر من الأمانة العامة لنوادى الأدب بقيادة الشاعر حازم حسين أمين عام المؤتمر، وكوكبة من الباحثين والأدباء الجادين ومن العاملين بالهيئة. وعملا على جَسر الفجوة بين أدباء الأقاليم وأقرانهم المقيمين بالقاهرة، تمت دعوة عدد من الأدباء القاهريين للمشاركة فى المؤتمر، مثل الشاعر الكبير ماجد يوسف، وكاتبى القصة الكبيرين سعيد الكفراوى ومحمود الوردانى، والكاتبين الصحفيين محمد الشافعى ود.سيد رشاد، إضافة إلى نخبة من أساتذة الأدب والنقد بالجامعات، مما جعل المؤتمر جديرا بعنوانه القومى (مؤتمر أدباء مصر)، وأن يكون على مستوى القضية الكبرى التى طرحها، وهى أزمة الوعى والحراك الثقافى. ويبقى أن نطالب الجهات المختصة بالدولة بتفعيل التوصيات المشار اليها، وعلى رأسها وضع استراتيجية شاملة للثقافة يشارك المثقفون فى صياغتها بعد تشكيل لجنة عليا تضم مختلف الأطياف، فهى الحل المركزى لعشرات المشكلات التى تواجه بناء الإنسان والمجتمع والعقل المصرى وقضايا التنمية والتقدم، راجيا ألا يكون مصير هذه التوصيات هو الدفن فى الأدراج بجوار شقيقاتها من توصيات المؤتمرات السابقة.