تسكنه قريته «الكرنك» أينما ذهب، تخايله فى الصحو، وفى المنام، كتب عنها وهو فى جنيف، وهو فى سيراليون، وكتب عن تفاصيل الحياة فى قريته، وتاريخ أسرها، والعلاقات بين هذه الأسر. وتعد روايته «خالتى صفية والدير» وثيقة اجتماعية من قلب قرى الصعيد، من الكرنك التى تقع فى حضن المعبد الشهير، والأقصر المدينة الزاخرة بقيمها التاريخية والإنسانية. إنه بهاء طاهر النغمة الآسرة فى الرواية المصرية الحديثة، تنبع موسيقاه الخاصة من عشقه لموطنه، الذى أسس فيه قصرا للثقافة «قصر ثقافة بهاء طاهر». مسكون «بقريته، بناسها، وهمومها فهو يقول: «قريتى أمي»، فهى التى عرفت عن القرية أدق التفاصيل، والتطورات، ولم تُُغيّر طوال حياتها لهجتها ولاعاداتها الصعيدية، وكانت تملك موهبة غريزية فى حكاية القصص، تعرفها بقلبها، وتقصها بكل مشاعرها ووجدانها ولذا أهدى إليها بهاء طاهر أول رواية له وهى بعنوان «شرق النخيل» وعنها ورث بهاء حب الحكى والقص والرواية فيقول: «كانت أحب اللحظات إلىّ فى فترة الطفولة وفيما بعد الطفولة أيضا حين أستمع إليها تحكى هذه القصص باستغراق كامل، وبتفاصيل دقيقة، وبلغة البلدة وتعبيراتها كأنها مازالت تعيش فى النجع الذى ولدت فيه». مسكون بقريته «وخالتى صفية والدير» كتبها بهاء طاهر وهو فى جنيف وأتمها فى فريتاون – سيراليون عام 1990 وكتبها ويده دافئة لا تزال وكأنه فى نجعه، وفى قريته «الكرنك»، شخصياته حاضرة وماثلة فى أذهان من يقرؤها، صور مجسدة لنماذج بشرية حية، تأخذ سيماها فى مكانها وطبيعة بيئتها، لافتة لأنها تتدفق بالحياة بين السطور، تخرج منها أمامك لتحدثك، وتفضى إليك بلحظاتها الحلوة، والمُرة، التى جعلت منها دراما حقيقية لحيوات مجسدة.. فإذا بكيت ما تعرض له أبطالها من آلام، وإذا ابتهجت إذا حانت منك التفاتة إلى البياض بين السطور لأنك أيضا تضع لمساتك عندما تقرأها.. فتجد نفسك تقول : أى والله.. أو عندك حق..، ستجد فيها ذكرى من طفولتك الباكرة من حين يقول على لسان بطله «اعتاد أبى فى طفولتى منذ أكثر من ثلاثين سنة – أن يصحبنى معه فى أحد السعف وفى عيد 7 يناير لكى نعيِّد على الرهبان، وفى عيدنا الصغير كانت أمى تكلفنى بأن أحمل من جُملة العلب التى تعبئها بالكعك «علبة الدير». تلك العلب التى كان يتم تهاديها فى القرى والمدن المصرية بين الجيران حتى سبعينيات القرن الماضي،«فى فجر العيد تكون قد رصت فى داخلها أقراص الكعك المرشوش بالسكر تعلوه طبقة رقيقة من «الغُريبة» المميزة بنعومتها، وبحبة القرنفل المرشوقة فى وسطها ثم تطوى عليه الورق الشفاف وتضع غطاء العلبة الكرتون، وتبدأ فى العد: «علبة خالتك صفية، علبة جدك أبو رحاب، علبة خالك عبدالرحيم.. وعلبة.. وعلبة».. كان ذلك تقليدا اجتماعيا مصريا صميما. التهادى والمحبة ثم يلتقط السارد خيطه الروائى لينفتح المشهد على حياة خالتى صفية «كانت صفية بنت خالى لأمى توفى أبوها وأمها معا فى واحد من أوبئة الملاريا التى كانت تضرب بلدنا كل حين، ولما كانت أمى أقرب من بقى لها، ولما كان أبى ابن عم لأمى فى الوقت نفسه، فقد كان طبيعيا أن تعيش معنا، بالطبع هى أيضا قريبة لكل القرية.. مثلى ومثل الجميع فكلنا ابناء عمومة أو خئولة من قريب أو بعيد. وتتبدى التفاصيل الرقيقة من المشهد الأول تهادى علب العيد، فالعلبة التى ستذهب إلى صفية لا ينبغى أن يذكر فيها اسم الكحك ولا سيرته، ولا حتى يأتى ذكر العيد وإنما العلبة لطفلها حَسَّان، ذلك لأن صفية فقدت زوجها البك، فقد توفى عنها وهى فى العشرينيات من عمرها. ولا تفصح الرواية عن تفاصيل إلا عندما تحتدم الأحداث وتشتبك التفاصيل لتكشف عن أن زوج صفية الثرى مات مقتولا، وينسج السارد كل أحداث الرواية لتتمحور حول الظلم الذى يؤدى إلى القسوة والافتئات على الغير، ثم الثأر الذى يتولد بسبب تبادل القساوة وغياب الرحمة. الثأر الذى يحول مشاعر الحب بل العشق إلى بُغض، ويحيل الحياة الهادئة المستقرة إلى مضطربة، والمصائر إلى مصارع. صفية التى أحبت «حربي» فى صمت، جميلة جميلات القرية التى انتظرته طويلا ليطلب يدها فوجئت به يطلب يدها للبك الثرى خاله!، انطفأ فى داخلها قلب، واستيقظ قلب فأخلصت للبك وأنجبت له فرحة عمره «حسان»، فرصته لتحقيق أبوته، وهو الذى يكبر صفية بأكثر من ثلاثين عاما، لكن ما كانت الأمور لتمر فى سلام ومسرة فحزبى الذى رقص فى رقصة التحطيب فرحا بالمولود، والذى أفنى عمره فى خدمة خاله البك يُتهم بانه سيقتل «حسّان» ليرث الخال، ويصل الكلام لمسامعه، ومن هنا تبدأ مصارع أبطال الرواية فيتفق الخال مع المطاريد، لتعذيب ابن أخته حربي، وتبدأ مأساة حربى الذى كان معشوق النساء والذى غنت له الغجرية «أمونة البيضاء» الحلبية ذات الشعر الذهبى وعشقته من دون الرجال «حربى قلبي.. حربى قلبى ولما لاقيته ما حارب قلبي»، و«كان العشق يزينه فقد كان العشق مسموحا به فى القرية لمن لم يتزوجوا، بل وحتى لبعض المتزوجين الذين فلت عيارهم، وعلى كل حال فلم يكن هذا العشق سببا يمنع حربى من التقدم لو أنه اراد كما يقول السارد. وتمضى الرواية تغزل أثواب الحب، والرومانسية فى قصة حب صفية لحربى «وأذكر فى مرة أخرى أنى رأيت خالتى صفية جالسة وحدها فى صحن الدار ولم يكن فى البيت سوانا وهى تغنى بصوت خافت : «حربى قلبي»، ومع أن أغنية أمونة البيضاء كانت أغنية مرحة راقصة اللحن إلا أن خالتى صفية كانت تجلس يومها على الأرض، مقرفصة ممسكة رأسها بين يديه وهى تغنى الكلمات ببطء بلحن التعديد الحزين». ترى هل كانت صفية تدرى أن حربى سيكون لحن حبها وكرهها !، ولحن فرحها ومأتمها، هل كانت تدرى وهى تردد لحنها الحزين أنها سوف تكون أول مطالب برأس حربى فداء لزوجها المقتول، الزوج الذى أمر بتعذيب حربى وربطه فى نخله وتمزيق ضلوعه، ولحم ظهره، بل كان يريد له أن يتمنى الموت ويرجوه لكن لا يموت، كل هذا بسبب وشاية، وكأنها داحس والغبراء حرب على ناقة، أوعراك على حبل بعير، وشاية لا أساس لها تنامت، ونفخ فى جمرها حتى أصبحت نارا مشتعلة، غيرت حياة القرية الهادئة التى كانت تتسبح مع أذان المساجد وتتأمل مآذنها، وتتبادل كعك العيد، وتتهادى المحبة، فى القرية التى كانت تنعم بتراتيل الكنائس وترجو السلام فيقول السارد لأهليها: أذكر فى أول مرة دخلت فيها تلك القاعة مع المقدس بشاى «فى الدير» أنه توقف أمام صورة العذراء وهى تحتضن المسيح الرضيع وتحنو عليه بعينيها، وبدأ يغنى فجأة بصوت أجش «يا أم النور يا..»، وردد الصدى غناءه فى القاعة شبه المعتمة ثم بدأ صوته يتهدج بالبكاء وهو يغنى قائلا «علمينا كيف نشكر ونعظم القدير، وباتضاع القلب نعبد ربنا العالى البصير». لقد وقعت الواقعة، وتغيرت حياة القرية، تحولت جميلة جميلات القرية صفية إلى وجه عجوز، وقلب عجوز يُطالب بالثأر من حربي. ويحاول كبار القرية معالجة الأمر فيفكون أسار حربي، ليعيش فى مزرعة الدير حتى يوفرون له الحماية، فيعيش حربى مع المقدس بشاى آمنًا على حياته من القرية الظالم ثريها البك. حتى «المطاريد» الذين استعان بهم البك لتعذيب حربى كانوا قد فروا من مصير الجناة، ضربوا حربى لكنهم ما كانوا يريدون له الموت، فتركوا البك يواجه مصيره برصاصة من يد حربى الذى كان يدافع عن نفسه، ويذود عن حياته التى سيفقدها بسبب وشاية. صفية تُعيّر حراسها بأنهم نسوان ! لأنهم لا يريدون قتل حربى وتعيره بأنه يختبئ فى الدير خائفا من امرأة وطفل، هى وابنها !.. خلعت فساتينها ولبست «الخلالية» السوداء من رأسها إلى قدمها بل ألبست القرية كلها تلك «الخلالية»، عدودة طويلة انطلقت فى أرجاء القرية، ناس تنتصر لحربى وناس تشمت فيما حدث للبك الثرى «هكذا كان يفعل أثرياء آل عسران بالفلاحين زمان، وهكذا يفعلون الآن»، سبحت القرية فوق فوهة بركان، فكان عيد صفية يوم أن يكبر حسان ويثأر لأبيه، تحول العيد ولم تعد علب الكحك، ولا حبة الغريبة مغروسا به القرنفل هدية المحبة، وضعنا السارد أمام قرية جُنت بالثأر بعدما كانت رمزا للمحبة والسلام، تدخل المقدس بشاى وحما حربى فى الدير، تدخل شيخ الجامع وهو فى الوقت نفسه الخال الذى تربت صفية فى داره وألقى كلماته محاولا التأثير فى القلوب فها هوالعيد يجئ والقرية فى صراعاتها فيقول: «ليس العيد لمن لبس الجديد ولكن لمن تلقاه بقلب جديد، إن نزعتم من قلوبكم الغل أصبح كل يوم من حياتكم عيدا»، أكاد أسمعه وصوته يرق ويتهدج حين يذكر الرسول عليه الصلاة والسلام، يذكر ما قاساه قبل الهجرة وبعد الهجرة، يذكر حروبه وجروحه فيخفت صوته ويمتلئ حزنا ثم يعود إلى القوة والابتهاج وهو يذكر كيف أتم الله نعمته، وكيف ألف بين القلوب المتخاصمة ، يتوقف وهو يجيل بصره بين جمهور المصلين، أكاد أشعر به يريد أن يمسك كل واحد من كتفيه ويقول : عندى أمل. تناقضات مجتمع تكشف الرواية تناقضات مجتمع القرية، فهو مجتمع يريد أن يأخذ ثأره بيديه، يُسجن «حربي» عشر سنوات لأنه قتل البك فتقول «صفية» : «ليتهم يفرجون عنه غدًا، أريده هنا أمام عيني، وأريد أن يراه حسان ليعرف من الذى سيقتله عندما يكبر. وبعد حادث لجوء الخال الكبير للدير لتأمين حياة «حربي» قاطعت صفية الخال الذى تربت فى بيته، بل إن زوجة الخال نفسها ترى أن صفية عندها كل الحق، وعندما طلب إليها الخال أن تزور صفية زارتها فكادت أن تطردها!وعادت تقول غاضبة: أنت تعرف النار التى تعيش فيها فلم جعلتنى أذهب إليها؟، نحرمها من ثأرها ثم نذهب لنشمت فيها؟!، هذا حرام والله!»، لقد كان رسم الشخصيات، وحوارها، وما نطقت به تعبيرا عن تجذر هذه الفكرة الثأرية فى القلوب وأنها من أقسى العادات التى تعانى منها بعض قرى الصعيد، فرغم أن زوجة الخال تعرف أن حربى قد ظُلِمَ ظُلم الحسن والحسين، إلا أن هناك شيئا أعمق من ذلك كله كان يجعلها تعرف أن صفية لن ترتاح حتى تأخذ ثأرها. وصفية نفسها تأمر العمدة ألا يقيم عزاء فى زوجها، وأن العزاء هو يوم الأخذ بالثأر، وتنشغل القرية بذلك حتى تحدث نكسة 1967، وكأن السارد يقول أن الهزيمة الداخلية الأعمق هى التى تقود إلى هزائم أكبر، وأنه عندما حاول الخال شيخ الجامع، والمقدس بشاى حقن الدماء، وإجارة حربى كان هذا جزءًا من الحل الذى وفر بعد ذلك سبل التقاضي، واللجوء للقانون. وأن هذا النجاح النسبى فى حصار قضية الثأر كان إرهاصة بالانتصار، انتصار الأمة عندما تكاتف الجميع، وسمت المشاعر حتى إن المطاريد أنفسهم تهيأوا للمشاركة فى تحرير الأرض فيقول زعيمهم فارس : «أنا دمى يغلى من يوم أولاد الحرام هؤلاء ما أخذوا سيناء، قل للمأمور أن المعلم فارس مستعد أن يأخذ رجاله إلى سيناء ليحارب اليهود إلى أن يخرجوا من البلد بل إنه ورجاله ومطاريد خط الصعيد كله مستعدون للذهاب إلى سيناء لطرد الأعداء منها، وضعنا بهاء طاهر أمام رواية من لحم ودم ومشاعر،أسرنا فيها بحرارة المشاعر، وصنعته الخلابة فى تحويل السرد إلى مشاهدة حية من الحياة، وبلغة عاميتها فصيحة، وأسلوب متدفق. «أمى قريتي» إنها نداء بهاء طاهر فى هذه الرواية البديعة التى تعد من أدب المقاومة بامتياز.