الموجة الثانية «الملحق» لما يسمى «الربيع العربى» تأخرت بالجزائر ثمان سنوات، لأنها فى كل مرة يتصاعد الغضب الشعبى، كان يطل شبح «العشرية السوداء» ليوقف التصعيد.. لكن الغضب هذه المرة جاء مقترناً بتحركات قوى دولية تسعى لإعادة ترتيب أوضاع الإقليم بما يتسق ومصالحها، لذلك دفعت بكل مؤسسات الدولة الجزائرية، ومنها الجيش، إلى قلب الأزمة.. السبب الآخر لتأخر «الملحق» هو حالة التوافق التى سادت لسنوات بين مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية، والتى أنهاها بوتفليقة بفك عرى الارتباط التقليدى بين مؤسسة الجيش والمخابرات، وإخضاعهما لسطوة وتوجيه الرئاسة، بعد أن كانا الطرف الفاعل الرئيسى. نواة المؤسسة العسكرية الجزائرية نشأت خلال حرب التحرير 1954/1962، لذلك استلهمت عقيدتها القتالية من التطلعات الوطنية للمجاهدين، قامت بهندسة السياسات وصناعة الرؤساء عبر عقود متعاقبة.. انقلبت على أحمد بن بلة أول رئيس للدولة، ضمن عملية وصفتها بال«تصحيح الثورى» يونيو 1965.. وعندما اشتعل التنافس على خلافة بومدين، بين بوتفليقة وزير الخارجية، ويحياوى رجل الحزب مطلع 1979، تدخل الجيش ليفرض الشاذلى بن جديد رئيساً.. تدخل بعد فوز جبهة الإنقاذ المحظورة فى الانتخابات البرلمانية يناير 1992، وأوقف المسار الانتخابى، ونصَّب محمد بوضياف.. ومن بعده اليامين زروال 1995/1998.. قبل أن يصعٍّد بوتفليقة للاستفادة من حنكته الدبلوماسية فى تمرير ميثاق السلم والمصالحة، وإنهاء الحرب الأهلية التى تجاوز عدد ضحاياها 200 ألف قتيل، فترة «العشرية السوداء»، وإعادة تأهيل البلاد لتجاوز تداعياتها. بوتفليقة وتوازن المؤسسات لكن بوتفليقة فى المقابل قام بتفكيك المؤسسة العسكرية، والوقيعة بين قادتها؛ نجح فى الإطاحة بالجنرال محمد العمارى رئيس الأركان السابق، الذى عارض ترشحه فى انتخابات 2004، وذلك بالتحالف مع الجنرال محمد مدين «توفيق»، مدير جهاز المخابرات المنحل «دائرة الاستعلام والأمن» التى كانت تابعة لوزارة الدفاع.. ثم فكك الجهاز إلى ثلاثة «مصالح أمنية» 2015، قبل أن يطيح بتوفيق نفسه، بعدما ضمن عقد شرف من الجنرال أحمد قايد صالح قائد الأركان، وعين بشير طرطاق «منسقاً للمصالح الأمنية».. وفى نفس الوقت حرص على إضعاف صالح بإقالة معظم قادة النواحى العسكرية الجزائرية وقادة الأمن العسكرى والدرك الوطنى آخر أغسطس 2018.. ليحقق فى النهاية حالة من توازن القوى بين مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، ضماناً لاستقرار النظام، وحسن إدارته، بالجهد القليل، الذى سمحت به حالته الصحية. حاكم لايستوعب الدرس! عندما ترشح بوتفليقة لولايته الرابعة 2014 اجتاحت الاحتجاجات الجماهيرية البلاد، وعدهم بالإصلاح، والتأسيس لمرحلة انتقالية، وإعداد كوادر صالحة للحكم، وفاز بأكثر من 80 % من الأصوات، بعدها نسى الضغط الشعبى، ونسى وعوده.. «حكام لا يستوعبون الدروس».. وتدور الأيام سريعاً لتبدأ التعبئة فى 22 فبراير على مواقع التواصل الاجتماعى فتخرج الجماهير إلى الشوارع، للتعبير عن رفض «ولايته الخامسة»، وتفتح ملفات الفساد وسوء الإدارة وصعوبة الظروف المعيشية.. منذ اللحظة الأولى للمظاهرات كان واضحاً أن الجماهير التى خرجت إلى الشوارع، بطول البلاد وعرضها تراهن على استقطاب ضمير المؤسسة العسكرية إلى صفها، بترديد شعار «جيش، شعب.. خاوة خاوة «إخوة إخوة».. بعض المتظاهرين توجهوا إلى مقر الحكومة والآخر لرئاسة الجمهورية، ولكن لم يفكر أحد فى التحرك نحو مبنى وزارة الدفاع، لقناعتهم بالدور الوطنى لمؤسسة الجيش، وأنها وحدها تمتلك القدرة على الحسم. الجيش وإسقاط بوتفليقة والحقيقة أن موقف المؤسسة العسكرية كان بالغ التوازن؛ ظل حتى آخر لحظة مؤيداً للنظام، ولكن عندما تأكد أن الأغلبية الساحقة قد انقلبت ضده، وأن الاستمرار فى تأييده يعنى المخاطرة بالدخول فى خصومة مع الشارع، وأنه لا يتوافر بديل من خارج الجيش، يمكن استئمانه على الدولة، انقلب على الرئيس.. بوتفليقة تحت ضغط المتظاهرين تعهد بالتخلى عن منصبه قبل نهاية فترته الرئاسية فى 28 أبريل، لكن تسريبات مجهولة نسبت بياناً لرئاسة الجمهورية يزعم قيام الرئيس بإنهاء مهام الفريق صالح قائد الجيش، بسبب تدخله فى الشأن السياسى للبلاد، وانتهاك قوانين الجمهورية، مما أثار حالة من الارتباك، تم التوافق على أثرها على نفى بوغازى مستشار الرئيس صحة البيان، والتبرؤ من نتائجه، وتأكيد وزارة الدفاع قناعتها بأن البيان المنسوب للرئاسة غير صحيح، وهدفه إثارة البلبلة فى البلاد.. إلا أن بياناً آخر نُسب لمستشار بوتفليقة زعم أن المئات من الحرس الجمهورى يقوم بمحاصرة مقر الرئاسة والإقامات الحكومية والتليفزيون الرسمى، تزامن مع بيان آخر للجيش يدعو إلى «التطبيق الفورى للحل الدستورى» وتفعيل المواد 7 و8 و102 التى تتيح عزل الرئيس.. البيان كشف عن تغير جذرى فى موقف المؤسسة العسكرية من النظام، بتأكيده أن مساعى الجيش تهدف لحماية الشعب من «العصابة التى استولت دون وجه حق على مقدراته»، وتضامنت الأحزاب فوراً مع مطلب رحيل الرئيس.. هنا أسقط فى يده، واضطر بوتفليقة لإبلاغ المجلس الدستورى باستقالته 2 أبريل 2019. تدخل الجيش على هذا النحو لا يمكن تفسيره بطموح شخصى فى السلطة لدى الفريق صالح، لأنه ظل حتى الفصل الأخير من الأزمة داعماً لبوتفليقة، ولكن الشارع كان قد وصل إلى توافق كامل بضرورة رحيل الرجل، مهما بلغت النتائج المترتبة على ذلك، فكان لزاماً على الجيش أن يعدل موقفه، ليساند الشارع، حفاظاً على الدولة، تدخل الجيش الجزائرى يندرج «ضمن المهام التى يخولها له الدستور طبقا للمادة 28، بصفته «الضامن والحافظ للاستقلال الوطنى، والساهر على الدفاع عن السيادة الوطنية والوحدة الترابية، وحماية الشعب من أى خطر محدق أو تهديد».. الجيش قام بإنهاء مهام اللواء عثمان طرطاق، مستشار الرئيس، المكلف بالتنسيق بين المصالح الأمنية «المخابرات»، وأصدر قراراً بإلحاقها من جديد بوزارة الدفاع، وإنهاء تبعيتها لرئاسة الجمهورية 7 أبريل 2019، مما يسمح لقائده الفريق صالح بزيادة إحكام سيطرته على السلطة، وتعزيز قوته كحاكم فعلى للبلاد. والحقيقة أن تدخل الجيوش الوطنية أضحى يمثل صمام أمن، فى مواجهة مخططات التخريب التى تستهدف دول المنطقة، التى تعتمد على عناصر مندسة داخل الاحتجاجات، للتجسس والتحريض والاغتيال، الأمن الجزائرى ضبط مجموعة إرهابية مسلحة، وواجه أعداداً من الملثمين الذين كانوا يسعون للتخريب.. ولكن إذا كان الجيش الجزائرى مسئولاً عن تأمين الدولة فى مواجهة مخططات التخريب، فإن وعى المواطن وحده لاغنى عنه لإدراك حقيقة أنه ليس من الكياسة إسقاط الدولة، بالتمسك بشعارات تستهدف إزاحة كل الشخصيات التى تنتمى للنظام السابق من المشهد السياسى، لأن ذلك لا يعنى فقط إسقاط الرئيس المؤقت عبدالقادر بن صالح رئيس مجلس الأمة السابق، الذى عينه قائد الجيش رئيسا مؤقتاً إعمالاً للنصوص الدستورية، وإنما يشمل رئيس الوزراء نور الدين بدوى، ورئيس المجلس الدستورى الطيب بلعيز، لكن الأخطر، أن ذلك يعنى إهدار الدستور الذى تمت كل تلك التعيينات بمقتضاه، ويمتد ذلك الإعصار بالطبع ليشمل إقالة كل القيادات التى تدير الدولة، ما يعنى إسقاط كل المؤسسات.. ولن يبقى ذلك المنطق الفوضوى بالطبع على قادة الجيش المعينين بقرارات من بوتفليقة، لتسقط الدولة الجزائرية فى الفوضى الشاملة.. هذا التداعى الخطير فى حد ذاته هو الهدف من مخططات التخريب التى تستهدف المنطقة.. فهل نحن واعون؟!. مصر ونموذج التغيير مصر دائما النموذج والمثل.. شهدت تغييراً تم بفعل ضغط الشارع السياسى العشوائى فى يناير 2011، انتهى بسرقة عصابة الإخوان للسلطة، وكاد على مدى عام من الحكم أن يزعزع أوصال الدولة المصرية، وأن يحرق الأخضر واليابس.. أعقبه تغيير حدث فى 30 يونيو 2013، بفعل حركة الشارع السياسى المنظم، والمتوافق على الهدف من التغيير، ومن خلال تعبئة جماهيرية قامت بها «حركة تمرد».. التغيير الأخير قاده الجيش، وشاركت فيه كل المؤسسات الوطنية، وانتهى بتحول سياسى واستقرار اقتصادى ونهضة تنموية شاملة.. هذا النموذج المثالى يفسر أن «ملحق» الخريف العربى فى الجزائر والسودان تؤمنه المؤسسة العسكرية، بل تلتقط مقود إدارته مرحلياً.. هذا الإجراء يتم حمايته للدولتين من مصير سوريا واليمن، وتقديراً من المؤسسات العسكرية الوطنية لحجم مخاطر المرحلة، وعمق الاستهداف الدولى للمنطقة.. هذه المؤسسات لا تلعب السياسة، لكنها خير من يقدر حجم المخاطر التى يتعرض لها الأمن القومى، واتجاهات المصلحة الوطنية، تصدرها للمشهد يؤكد أن المرحلة القادمة ستشهد تنسيقاً بين دول المنطقة، على نحو يكفل الحفاظ على أمن الإقليم، ومصالح دوله.