يثير مصطلح الهندسة الاجتماعية Social Engineering التباسًا لدى الجمهور العام منذ تصدى العديد من الكتب ووسائل الإعلام للتحذير من استخدام بعض الجهات سواء الحكومية أو الخاصة لمجموعة من الأساليب غير الأخلاقية للوصول إلى معلومات أو لخرق خصوصية البيانات الشخصية والأفكار والآراء الى تحميها القوانين، وصولاً إلى إحداث تأثير متعمد فى عدد من الأشخاص أو المجتمعات. تتعلق تلك الأساليب عادةً بالاستخدامات الاستخباراتية من جانب الأجهزة الأمنية والحكومات، وبعض الحملات الاستهلاكية لصالح الشركات الكبرى لشبكة الإنترنت خاصةً مواقع التواصل الاجتماعى فى تحقيق أهدافها. الهندسة الاجتماعية وفقًا لهذا التعريف عبارة عن عدد من التقنيات المستخدمة لدفع الأشخاص لأداء عمل معين أو الإدلاء ببيانات غير معلنة، من خلال توجيه أسئلة بسيطة أو تافهة عن طريق الهاتف أو المواقع الإلكترونية عقب انتحال صفة أو الادعاء بالانتماء لجهة مخولة بطرح الأسئلة وتلقى أجوبتها دون تحفظ أو تخوف من استخدامها بصورة ملتوية. رغم خطورة تلك الأساليب، إلا أن ذلك النوع من الهندسة الاجتماعية ليس محور الحديث فى هذا المقال. الهندسة الاجتماعية المقصودة هى أحد العلوم الاجتماعية التطبيقية المعنية بدراسة التأثيرات الراهنة والمستقبلية على الاتجاهات والسلوكيات الاجتماعية على مستوى الأفراد والجماعات والطبقات والمجتمع ككل، كناتج للسياسات الحكومية وممارسات الجهات والكيانات الخاصة باختلاف مقاصدها الاقتصادية والسياسية. يسعى المهندس الاجتماعى لتطوير الأنماط الاجتماعية السائدة من خلال إدارة الموارد البشرية والاقتصادية المتاحة، وذلك من خلال تطبيق المنهجية العلمية Scientific Methodology لتحليل وفهم النظم الاجتماعية وتحديد مشكلاتها ومسبباتها، الأمر الذى يُمكنه من التوصل إلى السياسات والقرارات المناسبة لتعديل أو تصويب أو تغيير الواقع الاجتماعى. لا يهدف المهندس الاجتماعى لتحقيق أهداف سياسية بعينها، وإن كان لدوره تأثير على المجال السياسى كتحقيق الاستقرار المجتمعى على سبيل المثال، وهو ما يربط الهندسة الاجتماعية بالعلوم السياسية فيما يعرف بالهندسة السياسية. يسارع كثير من الباحثين فى مجال الإعلام التنموى لإطلاق مسمى الهندسة الاجتماعية على حملات التسويق والتوعية الاجتماعية التى يصممها خبراء الإعلام بهدف تغيير سلوكيات أو عادات أو معتقدات اجتماعية غير مرغوبة أو ثبت ضررها، وذلك على غرار حملات مكافحة جفاف الأطفال وتنظيم النسل والوقاية من البلهارسيا خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى. تفتقر تلك التسمية للدقة بالمفهوم العلمى نظرًا لأن تأثيرات تلك الحملات مهما اتسع نطاق تطبيقها أو أولوية القضايا التى تعالجها مثل الانفجار السكانى لا تمثل جزءًا ضمن استراتيجية مجتمعية شاملة، لكنها تستهدف علاج مشكلة فى حد ذاتها فى مجال محدد. تكتسب الهندسة الاجتماعية أهميتها من حقيقة علمية وعملية مؤكدة، وهى حجم تأثير القوانين والسياسات الحكومية على المجتمع بجميع أفراده وفئاته. أشبع هذا المصطلح بدلالات سلبية لأسباب مختلفة باعتبار أن جميع القوانين والقرارات الصادرة عن مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية (وفقًا لمفهوم السلطة التى تمثلها) فضلاً عن السياسات التى تقوم بتطبيقها لتثبيط سلوكيات أو تغيير المواقف العامة حول مفاهيم بعينها تهدف لإحداث تأثير مقصود ومخطط على مجتمعها. أيضًا تعمل الحكومات على تطبيق مجموعة من الحوافز لتنشيط دورة رأس المال والاستثمار التجارى والصناعى لجذب رجال الأعمال والمستثمرين المحليين والأجانب التى تعد صلب السياسات الاقتصادية والضريبية، الأمر الذى يحدث تغييرًا بالضرورة على مراكز الاشخاص الطبيعية والاعتبارية وقدراتها التنافسية فى الأسواق. المعضلة الرئيسية التى تواجه أى نظام اجتماعى عدم قدرته على القيام بدوره الرئيسى وهو منح مجموعة الأفراد والجماعات والفئات التى تشكل مجتمعًا متمايزًا القدرة على التعايش والتفاعل والتطور والنمو.. إلى آخره. تقدم الهندسة الاجتماعية الحل، من خلال استخدام الأساليب والأدوات التقنية الأكثر تطورا لمعالجة البيانات الإحصائية الموثوق بها، لبناء صورة متكاملة عن مكونات النظام الاجتماعى ووظائفه (النموذج الوظيفى). بعبارة أخرى، الهندسة الاجتماعية هى نظام علمى يستند إلى البيانات يستخدم لوضع تصميم مستدام وتطبيق (الإدارة الذكية) للموارد المتاحة لتحقيق أعلى مستويات الحرية والازدهار والسعادة للمجتمع. نصل إلى السؤال العاجل: هل هناك حاجة ماسة لهندسة اجتماعية جديدة؟ ومن يقوم بدور المهندس الاجتماعى؟ ليس من الصعب الإجابة على السؤال، بالطبع نعم هناك ضرورة لذلك، وإلا فكيف نفسر تلك الحالة من الاهتمام المفرط بنتائج التعداد القومى للسكان الذى أعلنت نتائجه مؤخرًا. الأكثر من ذلك، دلالات تصريحات الرئيس السيسى خلال المؤتمر الصحفى المشترك مع نظيره الفرنسى ردًا على سؤال حول أوضاع حقوق الإنسان، التى أكد سيادته خلالها على عدم وجود نظام تعليمى جيد أو نظام صحى كفء أو سياسات تشغيل قادرة على توفير فرص عمل بأجور مناسبة. فى حقيقة الأمر، لا يمكن وصف سوء الأوضاع بالتعليم والصحة وسياسات التشغيل بالمشكلات، لأنها فى حقيقتها مكونات رئيسية للنظم الاجتماعية فى العصور الحديثة، نظرًا لكونها مسئولة عن غالبية الوظائف التى تقدمها تلك النظم لأفراد مجتمعاتها وتحدد طبيعة علاقتها بهم تحت مظلة الكيان القانونى الذى نطلق عليه مسمى (الدولة). برع المهندسون الاجتماعيون الأمريكيون فى تصميم نظام اجتماعى فريد من نوعه لمجتمعهم الذى يُعد تجمعًا بشريًا وليدًا بالمقارنة بأمم أخرى تناهز عشرات القرون. منذ وضع الآباء المؤسسون مواد الدستور الأمريكى تم تجذير عدد من القيم فى الثقافة المجتمعية، أبرزها على الإطلاق نمط الحياة الامريكية الذى ينبغى الدفاع عنه فى مواجهة أعداء يريدون استلابه، أى شخص أو جماعة أو دولة أخرى تعد عدوًا إذا ما حاولت ذلك، ولم لا فالحياة فى المفهوم الأمريكى يقابلها الحرية التى تجرى فى عروق كل الأمريكيين! قيمة النجاح لا غناء عنها، فالأمريكى يسعى منذ مولده إلى أن يكون فائزًاWin ner بتحقيق الحلم الأمريكى على أرضه، أرض الشجعان الأحرار كما يبدأ النشيد الوطنى. إياك أن تكون خاسرًا Loser فى أمريكا فهو وصف لا يُحتمل. تلك القيم وغيرها ستجدها فى المدرسة والجامعة والمستشفى والمجمع التجارى والصحف والتليفزيون، بل لن تجد ثمة صعوبة فى إدراكها من الحديث مع أى أمريكى. وفقًا لذلك فإحدى ركائز النظام الاجتماعى مبنى على البحث عن أولئك الفائزين فى كل بلدة أو مدينة أو ولاية فى الولاياتالمتحدة، سواء كانوا رياضيين موهوبين أو طلبة نابهين أو فنانين متميزين، لكل فائز نصيب من الحلم ذلك مبدأ أمريكى خالص، هو طريق الرقى الاجتماعى والصعود الطبقى وتحقيق الذات. لا ينكر سوى الواهمين حجم الثقوب فى الرداء الاجتماعى الأمريكى، فالتعليم مجانى فى المدارس الحكومية والمناهج جيدة وإن كانت ليست ممتازة، فهناك مناهج فى أوروبا واليابان والهند أفضل. هناك مدارس وجامعات مرموقة بل الأفضل فى العالم، إلا أنه للالتحاق بها يجب أن تكون من أولئك (الفائزين) أو من أبناء نخبة العائلات الأمريكية التى تحوز المال والنفوذ. أبرز العيوب دون منازع هو النظام الصحى الأمريكى المبنى على وجود مظلة تأمين صحى التى تمنحها الشركات للعاملين بها، أما لو فقدت ميزاتك التأمينية فى أرض الفرص فأنت هالك لا محالة إذا ما أصابك مرض مزمن، وهو ما جسّده فيلم المخرج الأمريكى مايكل مور بشكل صادم عندما قارن النظام الصحى فى أمريكا ونظرائه فى كوبا وبريطانيا وفرنسا. غالٍ هو الثمن الذى تدفعه فى النظام الاجتماعى الأمريكى كمواطن ينتمى إلى الطبقة المتوسطة يرغب فى تعليم جيد له ولأبنائه ومسكن ملائم تمتلكه، فلا مفر سوى بالاقتراض من البنوك وقيود الرهن العقارى Mortgage فتظل تحت رحمتهم حتى تقاعدك عن العمل. هل النموذج الأمريكى يحتاج إلى هندسة اجتماعية؟ نعم وهو الآن يشهد لحظة تحول مدهشة منذ وصول الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى سدة الحكم. على نفس المنوال، ما هى مواصفات المهندس الاجتماعى الذى نحتاجه فى مصر؟ دعنا نناقش ذلك فى مقال الأسبوع المقبل. المصادر: ?https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%87%D9%86%D8%AF%D8%B3%D8%A9_%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A9_(%D8%A3%D9%85%D9%86) ?https://www.revolvy.com/main/index.php?s=Social%20engineering%20(political%20science)&item_type=topic ?https://www.economist.com/blogs/graphicdetail/2017/11/daily-chart?cid1=cust/ddnew/email/n/n/2017111n/owned/n/n/ddnew/n/n/n/na/Daily_Dispatch/email&etear=dailydispatch