أعرف الرجلين وجلست إليهما. الأستاذ محمد حسنين هيكل والأستاذ مفيد فوزى. وهى جلسات لو تعلمون عظيمة. عظيم أن تجلس للتاريخ، لمحاورى صانعى التاريخ الإنسانى، سياسة وثقافة وفناً. الأستاذ هيكل إحدى الجلسات امتدت لثلاث ساعات وتكررت أكثر من مرة. كان الرجل يريد أن يسمع من جيل شاب- كما كان يقول- عن أحوال مصر قبل ثورة يناير ووقت حكم الإخوان. منصتا كان الرجل. يثبت عينيه فى عينى. بجسارة وقوة وثقة. وكان يقاطع حديثى بسؤال فى غاية الدقة. وأجيب ربما بدقة أقل. وكان يرد على أسئلتى وهو يرسل لى بنبرة صوته وعينيه بأنى على وعى بما يدور. ذكاء اجتماعى يأسر كل من يجلس إلى الأستاذ. ولا أخفى إننى كلما تكلم الأستاذ. كنت أشرد وأنظر إلى تفاصيل هذا الرجل. كل كتاب وكل سطر وكل حرف كتبه هذا الرجل قرأته. فكنت أشرد أمام رجل كان جليسا لجمال عبدالناصر وشارل ديجول وماو سى تونج وشوان لاى وخروشوف وبريجينيف ونهرو وأنديرا غاندى والخمينى ومحمد رضا بهلوى والسادات وعبدالمنعم رياض ومبارك وعبدالفتاح السيسى. وعندما تنتهى الجلسة مع الأستاذ. أشعر وأنا خارج من عنده بأننى مغلف بطقس تاريخى. مخدر إلى أن تلتهمنى زحمة القاهرة فأعود للوعى المؤلم. أما الأستاذ مفيد فوزى عندما تجلس إليه تشعر بشيء آخر تماما. هو رجل مبهر. لديه ميزان حساس (جدا) لوزن البشر. وعلى أساس وزنك يعاملك. فأنا أعشق كتابات هذا الرجل. وأعشق أسلوبه فى الكتابة. (ستايل) مختلف له بصمة وضع عليها اسم (مفيد). مدهش فى حواراته بطريقة السؤال ومضمون السؤال وكلمات السؤال. فحوارات الأستاذ مفيد ليست من نوع- شعورك إيه أو ما رأيك- سؤال فى المطلق. من يرجع للكتابين العظيمين هؤلاء حاورهم مفيد فوزى يعرف أن الحوار عند الأستاذ ليس حواراً لملء الورق. بل حوار روح وجسد وعقل. حوار مع محمود درويش وحوار مع فيروز وحوار مع كلوديا كاردلينى ويوسف إدريس ومحمود السعدنى. وكما استطاع الأستاذ هيكل أن يتلفز المقال الصحفى. استطاع الأستاذ مفيد أن يتلفز الحوار الصحفى. فكانت حواراته مع الدكتور يوسف إدريس وسناء جميل وعادل إمام تحفة فنية لا تريد أنت تنتهى وأنت تشاهده. أتذكر حواره مع الرائعة الراحلة سناء جميل وهو يقزقز اللب قاصدا ويلقيه على الأرض لأنه يعرف أن الست سناء تحب النظافة ولا تطيق أن يرمى أحد أى شيء على الأرض. أما كتابات الأستاذ مفيد الصحفية فهى عالم آخر من الكتابة. فيه فلسفة عميقة دون أن يقول عن نفسه فليسوفا. عندما يلقى بأسئلته على الورق. تجدها أسئلة فلاسفة. تحتار كقارئ أن تجيب عنها. وعندما تجلس إليه تعرف أنه يحب بجنون كل من على الترتيب حنان مفيد فوزى وشريف الحفيد وآمال العمدة ومجلة صباح الخير. عندما توليت رئاسة صباح الخير هاتفنى صباحا. مهنئا وناصحا ومرشدا. فى كل كلمة من كلماته كأنه يوصينى بحبه الكبير- مجلة صباح الخير- يغار عليها ويخاف عليها ويحنو عليها. عشق مبهر للمكان وللورق وللمعنى فى صباح الخير. الأسبوع الماضى صدر للأستاذ مفيد كتاب جديد. إبحار فى عقل وقلب محمد حسنين هيكل. هيكل الآخر. حوارات مطولة ما بين رجلين يجيدان السياسة والحياة وفن الصحافة وفن الحوار. قرأت من قبل تلك الحوارات التى امتدت لإحدى عشرة حلقة على صفحات الشقيقة الصغرى مجلة نصف الدنيا. لكن عندما تسلمت الكتاب. قرأته من جديد. كأنى أقرأ الحوار لأول مرة. لأنى أعرف أن القراءة مرة ثانية للكتاب بعد سنوات من التراكم المعرفى والثقافى تجعلك تستقبل الكتاب برؤية أخرى وروح أخرى وفكر آخر. كما أن عامل السن وعامل الزمن وعامل الأحداث والتجربة. تجعلك فى وعى أكبر وأنت تقرأ من جديد لكتاب قديم. فقد قرأت من قبل وأنا فى بداية الثلاثينيات من العمر كل كتب الأستاذ هيكل. وقرأتها مرة أخرى كاملة وأنا فى بداية الأربعينيات. وكانت القراءة مختلفة تماما فقد كان الوعى مختلفا. وخلال الأعوام الماضية بعد أن فتحت ثورة يناير (بكابورت الكتابة) جعلت كل محبى القراءة يعودون لقراءة إبداعات كٌتاب الماضى. سلامة موسى وطه حسين والعقاد وزكى نجيب محمود ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ولويس عوض وغالى شكرى ومصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين وموسى صبرى ومحمود السعدنى ومفيد فوزى وكامل زهيرى ورءوف توفيق وجلال أمين وإدوارد سعيد ومحمود درويش وزكريا تامر والطاهر وطار وبراترند راسل وميشال فوكو وألبير كامى وسارتر وناتالى ساروت. وتقرأ عن شارل ديجول وشوان لاى وتشرشل ونهرو وجمال عبدالناصر ومحمد أنور السادات. وتشاهد رسومات بهجت وحجازى والليثى وتسمع أم كلثوم وحليم وفيروز ونجاة وكل ألحان بليغ حمدى وكل كلمات مرسى جميل عزيز. كل اسم من هؤلاء قطعة من الذهب. الإبداع بعناية وشياكة وجمال ورشاقة وفكر وعلم. ولم يبق من كل هؤلاء سوى زكريا تامر السورى المنفى فى لندن والأستاذ مفيد فوزى والأستاذ رءوف توفيق والدكتور جلال أمين فى مصر. وعندما تمسك بكتاب الأستاذ مفيد فى حواره مع الأستاذ هيكل يعود بك الزمن للكتابة الجميلة الرشيقة الشيك الممتلئة المضمون. كتابة بها روح وثقافة ومعرفة وفن وعقل. وبها متعة. لو كان يصح. لكان يجب علينا أن نكتب على غلاف الكتاب عبارة (هنا متعة). متعة فى المقدمة والتحضير للسؤال وللسؤال وللإجابة وللتعليق على الإجابة. يعيب الكتاب، وإن كانت ميزة عند البعض، أنه كتاب صغير عدد صفحاته 140 صفحة من القطع المتوسط. وهو لمحترفى القراءة كتاب صغير. وللهواة كتاب جيد. لكن الفضول الإنسانى لمعرفة هيكل يجعلك تريد أن يمتد الكتاب لثلاثمائة صفحة من القطع الكبير. فالأستاذ هيكل كتاب كبير بمفرده. لكن الأستاذ مفيد فى كتابه هذا لم يترك شيئاً فى الرجل إلا واقتحمه وفتش فيه ووضع من روحه كلمات تحيى الحوار. فكان متكاملا لا ينقصه شيء. رحم الله الأستاذ محمد حسنين هيكل. وللأستاذ مفيد.. (أحبك).•