بقلم : نجيب محفوظ فى لذة وارتياح جلس يقرأ الأهرام ويحتسى قهوة الصباح، وربما رفع رأسه عن الجريدة بين حين وآخر ليناقش أحد الموظفين أو يعلق على خبر من الأخبار أو يستمع إلى ما يدلى به الآخرون، ولبثت الحجرة بذاك تقبس من المقهى الجو الصاخب والثرثرة والفراغ حتى وافت العاشرة فطويت الجرائد ورفعت أوانى القهوة وبدأت حياة الديوان، وفى مثل تلك الساعة من كل يوم يأتى ساعى البريد بحقيبة الرسائل، وقد جاء كعادته فبعث إليه بناظريه بشغف، وهذا دأبه كلما دار الرجل على المكاتب بالرسائل وإن لم يكن ينتظر رسائل البتة، ولكن الرجل بادله مثل نظرته وأقبل نحوه ملوحًا برسالة فتناولها باهتمام شديد وجرى بصره على الظرف فقرأ- حضرة الأستاذ على عبدالله، مصلحة المساحة بالجيزة- وأدرك من النظرة الأولى أنه يرى هذا الخط لأول مرة فللخط ملامح كالوجه لا يخطئها العارف بها، وفض الغلاف مدفوعًا بحب الاستطلاع فوجد الكلمات الآتية: «أرجو أن تقابلنى فى الحديقة الأندلسية فى الخميلة الهرمية الساعة الخامسة من مساء الغد، الإثنين»، وثبتت عيناه على السطرين الغريبين وقد لاحت فيهما نظرة دهشة وإنكار ولكنها لم تدم إلا ثانيتين، ثم أضاءت عيناه بسرور وتدافعت دقات قلبه وتورد وجهه الممتلئ فظفر الفرح برزانة الأربعين.. وعرف أنه خط نسائى وهو ما غاب عنه عند النظرة الأولى فالعواطف كثيرًا ما تكون من بواعث المعرفة، وأدرك أن الأسلوب والموعد وعدم الإمضاء تدل جميعًا على أن الرسالة من وحى قلب مشوق حذر يتوق إلى انتهاب لذة واختلاس غرام، وقرأ الكلمات مرة ومرتين ليطيل أمد اللذة ويديم أثرها. وسرعان ما استحضر ذهنه الهائج صورتين جميلتين جد مختلفتين وتساءل متحيرًا: تُرى أيهما صاحبة الرسالة؟.. فلا شك أن إحداهما مرسلتها ولكن أيهما هى على وجه التحقيق؟ وجعل يتمثلهما بخياله بسماتهما الظاهرة والباطنة ويقول: «الأرجح أن تكون اللعوب الطروب فهى على جانب من الاستهتار والمرح، أما الأخرى فيغلب عليها الحياء والخوف..» على أن هذه الأحكام المرتجلة غالبًا ما تخطئها العصمة والصواب فلينتظر وما الأصيل ببعيد. وشعر بخُيلاء وزهو وتاه فكره فى أودية من الأحلام، فلم يستطع أن يوجه انتباهه إلى دفاتر الأرقام الموضوعة أمامه فانطوى على نفسه مستسلمًا إلى لذة الخواطر وتملق الأحلام؟ وعاد يتساءل مرة أخرى: ترى أيهما هى؟.. أو أيهما أُفَضِّل أن تكون؟.. لا شك أنى أفضِّل أن ألقى اليوم السيدة الأرملة التى أراها من نافذة حجرة المائدة، فجمالها على مثال يفتن نفسى ويستولى عليها وهى إلى هذا وذاك أرملة.. أما الأخرى التى أراها من شرفة حجرة النوم فسيدة ذات بعل على طيشها واستهتارها وهى سمينة مفرطة فى السمن.. وأليس من الجنون أن أظهر جهارًا مع سيدة متزوجة فى الحديقة الأندلسية؟.. ولم يغال فى تقدير الصعاب ساعة الظفر وذكر الحقيقة الممتعة وهى أن إحداهما فقدت عقلها وخاطرت بتوجيه رسالة إليه قد يُناط افتضاحها بزجها فى السجن.. ولبث ساعة يتأمل هذه الحقيقة. ولم يكن تبادل كلمة مع إحداهما.. وهل كان هذا ممكنًا وعلى كثب منه عينا زوجه الساهرتان وهناك ابنه إسماعيل فى الثامنة عشرة وطالب بكلية التجارة- وابنته تحية دون أخيها بعامين فى مدرسة الأميرة فوزية، فلم يجد من وسيلة سوى النظر وفتل الشارب، والعين تستطيع أن تبعث برسائل أبلغ من الكلام، وهو يعتقد أنه تلقى من هذه الرسالة التى تلقاها اليوم شيئًا غير مستحيل.. ويرجع زواجه إلى عشرين عامًا، ولكنه وفاء ظل بنجوى من التجارب، فلما اصطدم بتجربته الأولى تزعزعت أركانه، فدل على أنه عاش هذا العهد بفضل بلادة الرجل وعجزه، وكانت زوجه سيدة فاضلة، كرست حياتها للبيت والأبناء فلم تأسَ على ذبول شبابها ونضارتها ورضيت بالأمومة ملاذًا، وكان الرجل فحلاً من الذين يجدون أمتع اللذات فى أكلة دسمة ونومة عميقة، وأجمل الملاهى فى السعوط وفتل الشارب ولم تعد همومه الذهنية قط صنعة جديدة لطبق فول مدمس أو طاجن فريك بالحمام، وعلى أنه منذ رأى جارتيه الحسناوين عرف من نفسه جوانب كانت خافية فلمح فى رماد كهولته وميض نار، حتى جاءته هذه الرسالة فذهبت بصبره وهتكت وقاره الزائف فاستخفه سرور فاجر. وقد ذكر فى حبوره ابنها إسماعيل ولكنه لم يخجل وقال بتمرد: «إن أحق الناس بالحب هم المتزوجون»، ثم تنهد تنهيدة بعثرت بعض الأوراق المرتبة على مكتبه، وتمتم وقد غلبه التمرد «الساعة الخامسة.. الساعة الخامسة». وفى تمام الساعة الرابعة- وكان قد قال نصف ساعة بعد الغداء- حلق ذقنه ورجَّل ما تبقى من شعره وتطيب وارتدى بدلته البيضاء، وألقى نظرة تحية على النافذتين اللتين لا تُفتحان عادة قبل الساعة الخامسة، وغادر البيت فى خطى وئيدة ثم استقل الأتوبيس إلى ميدان الإسماعيلية وقطع المسافة بين الميدان والحديقة على مهل ليحافظ على أناقته، وكان كلما اقترب من هدفه شعر بالخطورة فرمق المارين بحذر، واجتاز باب الحديقة وبحثت عيناه عن الخميلة الهرمية فوجدها فى نهاية الحديقة تفصل بينها وبين البركة مماشٍ ثلاثة اصطفت على حفافيها أصص الأزهار والورد اليانع، فخفق قلبه وأذكت العواطف فى عينيه ضياء، وأجال بصره فى أنحاء الحديقة يشاهد أزواج الآوين إلى ظلالها بعناية لأنه خشى أن يطَّلع على سره أحد، ومثله إذا افتضح تجاوبت فضيحته أُسر كثيرة نساء ورجالاً، ودار فى الحديقة دورة سريعة وعاد إلى الخميلة قبل الموعد بخمس دقائق، ووجدها خالية فارتاح إلى خلوها واتخذ مجلسه إلى يمين الداخل مباشرة، ولم يكن لها من منفذ سوى بابين وقد أظلت عليها الأوراق الخضراء فحجبت عنها النور وجعلت جوها هادئًا، فلبث ينتظر وقد وثب إلى عقله الخاطر الذى طالما شغله: تُرى أيهما؟. وتمنى لو تأتى الأرملة.. ولكنه حذر الأمانى أن يخيب بعضها فيكدر بحماقتها ساعة ينبغى أن يتمتع بصفائها خالصًا، وقال لنفسه بامتنان: «كله عال».. ونظر فى الساعة فرآها عبرت الخامسة بدقائق خمس فتمتم: «لأصبرن الصبر الجميل فالتأخير فضيلة يتنافس فيها النساء جميعاً» على أنه لم يحسن الصبر طويلاً، فجعل ينظر خلال الأوراق الخضراء إلى الممشى المؤدى إلى باب الحديقة منتظرًا أن يراها قادمة تخطر هل يضطرب حيالها كما يضطرب العاشقون.. كلا.. ليلقينَّها رزينًا رقيقًا معًا.. ومضت دقائق أخرى تحير فيها رأسه وعيناه ثم رأى شخصًا مقبلاً لم يتبين وجهه ولكنه عرف من ملابسه أنه شخص امرأة، فأدار رأسه متعجلاً وجلس جلسة مطمئنة متقنعًا بالهدوء. وبلغ مسمعيه وقع أقدام لطيفة، وملأ جسم القادم فراغ مدخل الخميلة كما دله على ذلك اختفاء النور الباهت الآتى من الباب فتحول إليه بقلب خافق وعينين وشيكتَى الابتسام، ولكنه رأى فتاة خمرية اللون ساذجة الملامح فى الربيع الأول من عمرها لم تقع عليها عيناه من قبل، فجمدت نظرته وغض طرفه شاعرا بخيبة، ولكنه استطاع أن يلمح ما انطفأ فى عينيها من الإشراق والترحيب وما حل محله من الارتباك والحيرة.. وألقت نظرة على المكان، وترددت لحظات ثم دخلت بخفة وجلست فى الجهة اليسرى، فاستدل من نظرتها وارتباكها على أنها خُدعت به كما خُدع بها، واستاء لمقدمها الذى عكر صفوه وأفسد عليه خلوته واسترده الانتظار الذى توهم أنه برىء منه.. فأحس الزمن يتحرك فى شعوره متثاقلاً يكاد أن يزهق روحه، ونظر فى الساعة فوجدها فاتت الخامسة بربع ساعة فبلغ منه الضيق. ثم لاحت منه التفاتة نحو الشابة الصغيرة فرآها تنظر فى ساعتها فابتسم على رغمه. وراقبها باهتمام فطالع فى عينيها الاستياء ورآها تهز ساقيها بحالة عصبية. فَهَوِّنَ منظرها من بلواه وأظفره بتسلية ومتعة وعزاء. فإذا كان هو فريسة لدلال الأنوثة فها هى ذى فريسة لتيه الرجولة، وإن ألمها وعذابها لأجمل انتقام لألمه وعذابه. ولكن تُرى هل فطنت إلى سره كما فطن إلى سرها؟ لشد ما يتمنى أن تشغل بنفسها عنه.. لأنه يجرح كرامة شاربه المفتول بغير شك أن تتشفى هذه الحسناء الصغيرة بالسخرية منه.. ومتى يحدث هذا؟!.. بعد عشرين عامًا من الرزانة والوقار. ومضت دقائق أخرى جهنمية صهرت كلا المخلوقين البائسين.. ثم أثبتت الفتاة أنها أسرع منه تلبية للغضب فنهضت بغتة وغادرت المكان لا تلوى على شىء.. وأزعجه ذهابها الذى كان يتمناه منذ لحظات. ونظر فى الساعة فرآها تدور فى منتصف السادسة فقطب جبينه ونهض قائلاً: «الدلال كالملح إذا زاد فسد»، وغادر الخميلة متفحصًا أنحاء الحديقة، وجعل يرمق العشاق شَزرًا وحسدًا، وتردد حيال الباب الخارجى فلم يطاوعه قلبه على المضى، فما زالت به رغبة فى الحب حارة. وما زال يحلم بقطف الثمرة الدانية، فدار فى الحديقة دورة أخرى معللا النفس بأن تكون أعاقتها أسباب حقيقة بالتقدير. وأدت به قدماه إلى الخميلة فأطل برأسه داخلها ولكنه وجدها خالية، فعاد أدراجه ممتعضا كسير الفؤاد كقائد خسر الموقعة التى تفصل فى مجده. وعاد إلى بيته قُبيل المغيب ووجد لدهشته المرأتين بمكانيهما المعهودين فحاول أن يعرف خبيئتهما بالنظر تارة وبالتلويح بالرسالة تارة أخري؛ ولكنه قرأ فى وجهيهما نظرة إنكار صريحة، فتضاعف قنوطه وتساءل حانقًا: «هل عبث بى عابث؟» ولبث متجهمًا مكتبئًا». على أن الحقيقة وضحت فى صباح اليوم التالى وفى نفس الساعة التى تسلم فيها الرسالة، حين أقبل ساعى البريد نحوه وحياه باحترام وسأله بصوت خافت: - هل وجدت رسالة الأمس خاصة بك يا بيك؟ فوجب قلبه بعنف وسأله باهتمام: - لماذا توجه إلىَّ هذا السؤال؟ فقال الرجل بلهجة المعتذر: - الحكاية يا بيك أنه نقل إلى المصلحة حديثًا شاب يدعى على عبدالله أفندى- أى سَميُّك- وقد سألنى اليوم عن رسالة كان ينتظرها أن تصله أمس؛ فخشيت أن أكون وجهت رسالته خطأ إلى حضرتك لتشابه الاسمين. فعض على أفندى عبدالله على شفته السفلى وقد شعر بخجل شديد ورد الرسالة إلى الساعى قائلاً: الواقع أنى أدركت أن الرسالة ليست موجهة إليَّ ولكننى لم أعلم بوجود هذا الموظف إلا منكم فأرجو أن تعذرنى عنده. وكانت الحقيقة تدعو إلى الضحك لكن لا يضحك من أمثالها فى العادة إلا المحايدون، أما هو- المُبتلَى بآثارها جميعًا- فقد تنهد وقال متعزيًا: «عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم». •