هل للمرء الحرية فى أن يكون مثقفا أم لا؟ وهل الثقافة اختيار؟ أم إجبار؟! هذا سؤال من الأسئلة المهمة التى يجيب عنها طه حسين فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» - وهى مرتبطة أيضا بالتعليم وقضاياه وشئونه بل إنه يطرح قضية أخرى لاتقل عن ذلك أهمية وهى ماذا تعنى مكافحة الأمية؟ فكان من أوائل الذين فطنوا إلى أن الأمية ليست هى عدم معرفة القراءة والكتابة فقط وإنما هى أيضا الأمية الثقافية. ومن هنا يكتسب كتاب طه حسين قيمة معرفية كبرى لأنه استطاع بلورة إشكالية الخطاب الثقافى - المرسل والمستقبل - ولم ينظر إليه بمعزل عن الجمهور الموجه إليه ولم يقصر الكلام فيه على ما تستهدفه النخبة من أفكار ورؤى، مهتما بكيفية الاتصال بالجمهور المخاطب، ورد فعله فيما يعرف فى علوم الإعلام بالتغذية المرجعية، فهو يريد الجمهور المشارك فى الثقافة لا الذى يكتفى بدور المستقبل أو الذى ينسى ما تعلم فى غمرة مشاغل الحياة اليومية، وتوفير مصادر الرزق بل اهتم بتعزيز القدرة على الاختيار، واختبار البدائل، ولذا رفض فكرة الاكتفاء بمحو الأمية ووجد ذلك خطرا على الثقافة وعلى الأمة فيقول: «التعليم كله على اختلاف أنواعه وفروعه ضرورة من ضرورات الحياة فى أى أمة متحضرة والتعليم الأولى ضرورة لأفراد الشعب جميعا». ولا ينبغى أن يفلت منه أحد من أى طبقة من طبقات الشعب، وليس صحيحا أن التعليم الأولى فى بلد كمصر إنما هو محو الأمية، وجعل أبناء الشعب قارئين كاتبين فى أقصر وقت ممكن فإن هذا النوع من التعليم الذى لا حظ له من نضج، ولا من قدرة على المقاومة والاستقرار والثبات يوشك أن يكون أقرب إلى الشر منه إلى الخير لأن الصبى الذى يلم بالقراءة والكتابة والحساب ثم يُدفع إلى ميادين الحياة العملية دون أن يمضى فى فرع آخر من فروع التعليم، هذا الصبى بين اثنتين: فإما أن تشغله الحياة وصروفها عما تعلم فينساه ويرتد جاهلا كما كان، واهيا كما بدأ، وإذا هو قد أضاع وقته ووقت معلميه فى المدرسة، وإما أن يستبقى علمه بالقراءة والكتابة، وإذا هو يقرأ كل ما يقع إليه فى غير تمييز ولا اختيار، وإذا عقله مستعد لأن يتخذ صورة ما يقرأ على اختلافه وتباينه، وعلى اضطرابه وتناقضه». • خطر على النفس وعلى الأمة ويرى طه حسين أن التعليم الأولى على هذا النحو «ينشئ الفرد ضعيف العقل، فاسد الرأى، مشوه التفكير، عاجزا عن الفهم والحكم، مستعدا للتأثر بكل ما يلقى إليه، والاستجابة لكل ما يُدعى إليه، وهذا النوع من الشباب خطر على نفسه وعلى أمته لأنه خطر على النظام الاجتماعى دائما، ولذا يجب أن ننزع من رءوسنا فكرة القناعة بالقراءة والكتابة والحساب فى التعليم الأولى وفكرة الاكتفاء بمحو الأمية فإنك لاتحاربها ولا تمحوها بهذا التعليم اليسير، وإنما تؤجل سيطرتها على الأفراد لأشر منها، للتورط فى كثير من ألوان الفساد الاجتماعى على غير فهم ولاعلم ولا تمييز. • التعليم الأولى والتعليم الابتدائى ويؤصل طه حسين لأهمية التعليم الأولى الذى من شأنه أن يصنع ثقافة مشتركة بين جميع أفراد الأمة حتى لو اختلفت أنواع التعليم الذى يتلقونه بعد ذلك فيقول: «لقد أنشئ التعليم الحديث عندنا قبل الاحتلال الإنجليزى، على نحو منطقى معقول فأنشئت مدارس يبدأ فيها التلميذ بالأوليات ثم يتدرج حتى يبلغ التعليم الثانوى ثم يمضى فيه حتى ينتهى إلى غايته أى أنشئت مدارسنا على نظام المدرسة الفرنسية - الليسيه - ثم كان الاحتلال وكان تغيير النظم المصرية على اختلافها، وكان الغض من أمر التعليم ورده إلى أيسر حظ ممكن، وشقه شطران: أحدهما هذا التعليم الذى نسميه الابتدائى، والآخر التعليم الثانوى، وقد اختلفت على هذين النوعين من التعليم خطوب يعرفها الناس، ولسنا فى حاجة إلى تفصيلها، ولم يفكر أولو الأمر فى التعليم الأولى إلا فى عصر متأخر، ولم يفكروا فى جعله إلزاما إلا بعد الحرب الكبرى، وحين فرضت النهضة الوطنية الأخيرة ذلك فرضا، ومعنى هذا كله أن التعليم الابتدائى عندنا أثر من آثار الاحتلال الإنجليزى فهو طارئ على النظام التعليمى الذى أنشأناه أحرارا قبل الاحتلال، ومعنى ذلك أيضا أن هذا التعليم الابتدائى شىء مضطرب لا يقع فى هذه المرحلة ولا فى تلك، ولا يستطيع أن يستقل بنفسه، وإنما يجب أن يندمج فى التعليم الثانوى فيصبح أول مراحله». ويرى أن النتيجة الطبيعية لهذا أن يوضع النظام الذى يلائم بين التعليم الأولى والتعليم الثانوى فنأخذهما على أنهما وحدة لا تنقسم ولاينفصل بعضها عن بعض. • يعملون بأيديهم وعقولهم وقلوبهم ويتحدث طه حسين فى كتابه عن الثقافة التى ينبغى أن تقدم باطراد إلى الأفراد لتقارب بينهم وبين المعرفة فيقول على سبيل المثال: «إن من الحق على الدولة لهؤلاء الذين يقصدون التعليم الفنى ألا تقصرهم على هذا التعليم، وأن تضيف إليه مقدارا من الثقافة يترقى فى اطراد ما أقام هؤلاء التلاميذ فى مدارسهم بحيث إذا خرجوا منها ظافرين بالمهنة التى أرادوا أن يصطفوها كانوا قد أخذوا فى الوقت نفسه بحظ حسن من الثقافة التى تقارب بينهم وبين المعرفة، وتزيد ما تعلموه فى المدارس الأولية رسوخا فى عقولهم وامتزاجا بنفوسهم، وتجعلهم شبابا لا يعملون بأيديهم ليعيشوا فحسب، لكنهم يعملون بأيديهم وعقولهم وقلوبهم، ويجدون فى هذا كله القوة لا على العيش وحده بل على العيش والاستمتاع باللذات النقية البريئة التى يجب أن يستمتع بها الشباب. أما الذين لا يستطيعون أن يتجهوا إلى التعليم العام أو إلى التعليم الفنى لأن ظروف الحياة تمنعهم من ذلك، وتضطرهم إلى أن يعملوا ليعيشوا فمن حقهم على الدولة ألا يجهلوا ما عرفوا، وألا ينسوا ما حفظوا، وألا يقفوا عند هذا الحد الذى انتهت بهم إليه المدرسة الأولية، ومن حقهم على الدولة أن تلائم بين ما يحتاجون إليه من العمل لكسب القوت وبين ما يحتاجون إليه من المضى فى أسباب الثقافة إلى حد ما، وإنما يتهيأ لهم ذلك إذا نظمت الدولة دروسا يسيرة مسائية يختلفون إليها بعد الفراغ من أعمالهم، على ألا يكون ذلك إجباريا خالصا كالتعليم الأولى، ولا اختياريا خالصا تترك فيه لهم الحرية المطلقة، وإنما يكون شيئا بين ذلك، فيه حظ من الحرية، وفيه حظ من الإجبار». ويدعو طه حسين للترغيب والتشجيع بالمكافآت، والمسابقات وهى من أقوم الطرق إلى حثهم على التزود من الثقافة، والترفع عن الركود العقلى الذى قد يضطرون إليه إذا لم تفتح لهم الدولة أبواب المعرفة، ولم تهيئ لهم سبلها، والدولة قادرة على أن تجد الوسيلة إلى تمكينهم من المضى فى الثقافة على مهل حتى إذا بلغوا سن الشباب لم يكن الأمد بعيدا بينهم وبين إخوانهم الذين دخلوا المدارس الفنية فتثقفوا فيها بشىء من المعرفة ينمى فيهم ملكة الفهم والحكم والذوق، كما يؤكد ضرورة تنمية حظوظهم من الرياضة البدنية، ويتأتى ذلك إذا شجعت هذه الرياضة على النحو الذى تشجع عليه الثقافة العقلية. • معنى الإنسانية ومعنى الوطن ويؤكد طه حسين المعنى الحقيقى للثقافة ذلك الذى يتسع ليعرف المرء المعنى الحقيقى للوطن والإنسانية فيقول: «بهذا كله تضمن الدولة للشعب شبابا صالحين، قادرين على أن يعيشوا أولا، وعلى ألا يقنعوا بأدنى العيش بل ويرغبون فى طيبات الحياة، ويستطيعون أن يبلغوا منها بعض ما يريدون ثانيا، وعلى أن يفهموا معنى الوطن، ويقدروا حقه عليهم ثالثا، وعلى أن يفهموا هذه الصلة الاجتماعية التى تمكنهم من أن يعايش بعضهم بعضا، ويزاحم بعضهم بعضا فى غير مضارة ولا تعمد للشر، ولا قصد إلى الإثم، ولا تورط فى الجرائم والسيئات، وقادرين على أن يفهموا معنى الإنسانية ويحققوه، ويشعروا بما لهم على الأمم الأجنبية من حق، وما عليهم لها من واجب، قادرين على الجملة على أن يفهموا الحياة، وينهضوا بتبعاتها لأنفسهم وأسرهم والناس جميعا. وكل تقصير فى شىء من ذلك تتورط فيه الدولة عن عمد أو عن اضطرار يعرضها لأثقل اللوم وأشنعه، ويحملها إثم التفريط فى حق الديمقراطية وفى حق الشعب، ويقيم الدليل القاطع على أنها لم تؤد ماخُلقت له على وجهه، وهى من أجل ذلك عرضة لأن يسخط عليها الشعب الذى يقيمِّها بما يبذل، وبما ينفق من مال، وما يتعرض له من التضحية بالأنفس والأرواح، وعرضة لما يترتب على هذا السخط من فساد الأمن، واضطراب النظام، وهذه الثورات الاجتماعية التى إن عرف كيف تبتدئ فليس يعرف كيف تنتهى، ولا عند أى حد تقف؟ • أنصاف المتعلمين وخلاصة النابهين: ويرى طه حسين أن هذه المسئوليات التى يتحملها من يقومون بالتعليم الأولى ليست بالمهام السهلة اليسيرة لأن التعليم الأولى هو إعداد كثرة الشعب للحياة من جهة، وتحميل كثرة الشعب تراث الأجيال الماضية من جهة أخرى فيقول: «وليس هذا بالشىء اليسير الهين الذى يستطيع أن ينهض به أنصاف المتعلمين إنما أمر التعليم الأولى خليق أن يكون إلى صفوة الأمة، وخلاصة النابهين من علمائها وقادة الرأى فيها، أولئك الذين تتسع عقولهم لا لفهم التطور الوطنى الخاص فحسب بل لفهم التطور العام الذى تخضع له الحضارة الإنسانية كلها». • لقاء الحياة الأمم الراقية إنما تمضى فى نشر التعليم وتيسيره وترقيته، وتعالج أزمة البطالة للشباب المتعلمين وغير المتعلمين، وتعالج هذه الأزمة بتحقيق الصلة بين التعليم النظرى والحياة العملية، وبتنويع التعليم بشكل يدفع إلى التنافس، ولعله يتيح لهم الابتكار، وهو على كل حال يعدهم إعدادا حسنا للقاء الحياة فى غير عجز ولايأس ولاقنوط. هكذا تكلم طه حسين إيمانا بمهمة التعليم والشعور بخطره وقدسيته فيقول: «إن الذين يذكر لهم التعليم العالى فيرفعون أكتافهم ويهزون رءوسهم ويقولون: أعدد لنا الزراع والتجار والصناع فنحن إليهم أحوج منا إلى الذين يخرجون من الجامعة ومدارس التعليم العام قصار النظر، ضعاف العقول، محدودو الأفق، يتحدثون عن غير علم، ويصدرون عن غير فهم، ويقولون عن غير بصيرة ولا روية فلن نستطيع أن نخرج لهم رجال الزراعة والصناعة والتجارة والأعمال بوجه عام إلا إذا أخرجنا لهم قبل كل شىء هؤلاء المثقفين الممتازين والمتوسطين الذين يفهمون الحياة، وحاجاتها وضروراتها، والذين تعرض لهم مشكلات الحياة فيعرفون كيف يأخذونها، وكيف يروضونها، وكيف يظهرون عليها، وكيف ينفذون منها». أى أن طه حسين يؤكد أن الثقافة فى معنى من معانيها هى مواجهة مشكلات الحياة، وأن التعليم أيضا للقاء الحياة ولذا فقد تناول فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» تفاصيل إصلاح الشأن التعليمى وهو ما نعرض له فى حديث آخر.•