خمسة وأربعون عامًا مرت على رحيل هذا الرجل .. ومازال تأثيره بكل هذه القوة .. ومازال له من الحضور ما يفوق «قادة عرب» يعيشون بيننا!! فى حياته.. كان عبدالناصر واحدًا من قادة العالم!! نعم.. فقد ساهم مع نهرو «الهند» .. وتيتو «تشيكوسلوفاكيا» .. فى تأسيس كتلة عدم الانحياز .. وهى الكتلة التى ساهمت فى توجيه جميع قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ تأسيسها فى «باندونج» عام 1955.. وحتى رحيل جمال عبدالناصر. قبل ثورة 23 يوليو فى مصر التى قادها هذا الزعيم، كانت قارة أفريقيا تحت الاحتلال الغربى.. وكانت أغلب دول العالم العربى تئن تحت وطأة نفس الاحتلال.. وعندما رحل جمال عبدالناصر، كانت دول أفريقيا والدول العربية قد تحررت جميعًا بتأثير مواقف وسياسات ساهمت فيها مصر تحت قيادة جمال عبدالناصر.
إذن.. فمصر.. والعالم العربى.. وأفريقيا «على الأقل» كانت فى واقع صار مختلفا عند وفاته.. وقد كان عبدالناصر مشاركًا بقوة فى رسم مسار هذا الاختلاف.. وبعد رحيله بخمسة وأربعين عامًا.. مازال لجمال عبدالناصر.. هذا الحضور.. حتى أن الناس ترفع صوره فى كل تجمع له مطالب فى الحرية أو العدالة الاجتماعية. أكثر من هذا، فقد أصبح جمال عبدالناصر مقياسًا للمحبة والوطنية والإنجاز. لو جاء رئيس لا نحبه.. قلنا أين هذا من عبدالناصر؟ وإن جاء رئيس نحبه.. رفعنا صوره بجوار صور عبدالناصر!! فما هو سر عبدالناصر؟! فى رأيى المتواضع أن هذا الرجل قد وضع نفسه فى خدمة تنفيذ أجندة الوطنية المصرية ومطالبها.. تلك التى شاركت فى وضعها جميع القوى الوطنية والشعبية منذ بداية الوعى الوطنى الحديث، الذى بدأ فى التشكل مع وصول الحملة الفرنسية إلى مصر ومقاومة هذه الحملة.. وأعلن عن تجلياته الكبرى فى ثورة عرابى ثم ثورة 1919 حتى ثورة يوليو 1952. لم يأت جمال عبدالناصر بجديد!! أعظم أعماله لم تكن ناتجة عن أفكاره الذاتية بل كانت ترجمة لأفكار نادى بها من قبله آخرون شرفاء مسجلون على قائمة ضمير الوطن.. ويمثلون قوى اجتماعية حقيقية تشكل الجسد الحى لهذه الأمة. • التحرر من الاحتلال الذى عبر عن نفسه فى اتفاقية جلاء الإنجليز عن مصر.. كان هو الشغل الشاغل لجميع المصريين «على مدى سبعين عامًا».. باستثناء هؤلاء الذين تعاملوا مع الاحتلال واستفادوا من وجوده. • التحرر الاقتصادى من الرأسمالية العالمية أسس لها طلعت حرب وذهب معه المصريون بكل طوائفهم إلى آخر المشوار.. فمولوا بنك مصر الذى مول بدوره عددا هائلا من الصناعات الكبرى والشركات الكبرى التى تعمل حتى يومنا هذا، وأضاف عليها جمال عبدالناصر حتى جاء للأسف من تاجر فيها وباعها بأبخس الأثمان!! •تأميم قناة السويس مطلب تردد صداه طويلاً عند الزعماء الوطنيين وعند اليسار المصرى.. وعند طلعت حرب الذى طالب باسترداد قناة السويس.. وعند الدكتور مصطفى الحفناوى الذى حصل على دكتوراه من فرنسا عن قناة السويس.. ولجأ إليه جمال عبدالناصر قبل أن يعلن قرار التأميم. • فكرة الوحدة العربية كانت مجسدة بالفعل من خلال فلاسفة الفكر القومى العربى الوحدوى. ومن خلال جامعة الدول العربية التى أنشئت عام 1945.. ومن خلال السينما المصرية والأغنية المصرية «بساط الريح مثالا». • مجانية التعليم نادى بها عميد الأدب العربى طه حسين وزير معارف ما قبل ثورة يوليو حينما أطلق شعاره العظيم يجب أن يكون «العلم كالماء والهواء».. يحصل عليه الجميع. • تحديد الملكية الزراعية «الإصلاح الزراعى» نادى بها كثيرون.. قبل الثورة.. نذكر منهم إبراهيم شكرى.. الذى كان عضوًا فى البرلمان عن الطليعة الوفدية.. وتقدم بمشروع رفضه الإقطاعيون فى البرلمان. • بناء جيش مصرى وطنى قوى دعوة انتشرت على أوسع نطاق قبل ثورة يوليو خاصة بعدما حدث فى حرب فلسطين 1948 من هزيمة منكرة للجيوش العربية. وهكذا.. سنكتشف.. أن جمال عبدالناصر بالفعل.. وضع نفسه وجميع إمكانياته لتنفيذ مشروع الوطنية المصرية.. على المستوى المحلى. كما أنه ربط نفسه بكل المبادئ الإنسانية.. على المستوى العالمى. سواء حق الشعوب فى تقرير مصيرها.. وحقها فى عدم الانحياز وحقها فى التمتع بثرواتها والعيش فى سلام بعيدًا عن مخططات الاستعمار بكل أشكاله. لقد كان هذا هو سر جمال عبدالناصر الذى أدى إلى أن تتعلق به مشاعر المصريين والعرب والأفارقة.. وامتد هذا الحب الجارف لهذا الرجل ليشمل شعوبًا أخرى. هل يعنى هذا أن جمال عبدالناصر نجح فى كل هذا؟! بالتأكيد.. أنه نجح نجاحًا مبهرًا أحيانًا.. وفشل فشلاً ذريعًا فى أحيان أخرى. ولكن محبة الناس كانت مرهونة بصدق نوايا هذا الزعيم الذى لم يضبط متلبسًا بالسعى - يومًا ما- لمصلحة شخصية. •