أن تصنع فيلما جيدا العمود الفقرى للدراما به يعتمد على الطفل البطل وحوله مجموعة من الأطفال هذا فى حد ذاته مغامرة تستحق التوقف، خاصة أننا منذ سنوات قليلة هبط علينا المنتجون بنافورة أفلام أبطالها من الأطفال مثل «شبر ونص» و«سيب وأنا أسيب» والنتيجة كانت ضد الأطفال وضد منتجى هذه النوعية، لكن عندما يحمل أفيشا سينمائيا اسم عمرو سلامة كمخرج ومؤلف فى ذات الوقت خاصة أنه صاحب تجارب سينمائية ناجحة ومنتج جاد محترم لديه مشروع سينمائى «السينما المستقلة» وهو محمد حفظى لابد أن يحفزك لمشاهدة فيلمهما. فيلم «لامؤاخذة» ينتمى لسينما المخرج المؤلف، وهذا يعنى أن عمرو سلامة له صلة وثيقة بالقضية التى يطرحها وتستطيع لمس مدى الصدق الذى قدم به فيلمه أمام مجموعة من الأطفال الموهوبين لا تشعر أبدا أنك أمام ممثلين، بل أمام أطفال حقيقيين من لحم ودم على سجيتهم، قد تكون قابلت أحدهم أو كنت أنت نفسك منهم عندما كنت فى نفس المرحلة العمرية، والأمر لا يتوقف عند الأطفال فقط، بل عند ناظر المدرسة والمدرسين.
«لامؤاخذة» فيلم يطرح فكرة التعايش مع الآخر مهما كانت ديانته أو المستوى الاجتماعى الذى ينتمى له، نحن هنا أمام الطفل هانى عبد الله بيتر والده هانى عادل يعمل فى أحد البنوك وطبيعى أن يلحقه بمدرسة 7 نجوم وبديهى أيضا أن المستوى الاجتماعى والثقافى والفكرى لأولياء أمور تلاميذ هذه المدارس منعكس على الأبناء فلا تجد تلميذا يعنيه ديانة زميله ولا مستواه الاجتماعى الجميع سواسية، بطل الفيلم يتعرض لفاجعة وفاة والده هانى عادل، مما يضطر والدته كندة علوش لنقله لمدرسة حكومية نظرا لعدم قدرتها على تحمل مصاريفها الباهظة، ومن هنا يستعرض المخرج الفرق الطبقى والفكرى بين التلاميذ والمفارقات التى يتعرض لها بطل فيلمه بعدما أقنعته والدته بضرورة عدم البوح بديانتهم من أجل العيش فى سلام لحين الانتهاء من أوراق الهجرة، ولم يلاحظ أى من زملائه اسمه الثلاثى الذى يدل على ديانته المسيحية فهم يعرفونه باسم هانى عبد الله فقط والصدفة وحدها هى التى تكشف أمره.
عمرو سلامة فى تجربته الإخراجية الثالثة يؤكد قدرته على التلون من خلال اختياره لقضايا شائكة ومختلفة فى ذات الوقت وفى فيلمه «لامؤاخذة» اختار قضية من العيار الثقيل صالحة لكل زمان ومكان، طرحها عبر شريط سينمائى مبهج بلا فزلكة.. ويحسب له اعتمادة على وجوه جديدة من الأطفال الموهوبين يتمتعون بطزاجة الأداء التمثيلى خاصة أحمد داش «هانى عبد الله بيتر» الذى جسد شخصية ابن الذوات وزميله فى المدرسة معاذ نبيل الذى يعمل بالنجارة مع والده بعد انتهاء اليوم المدرسى والتلميذ البلطجى ابن رجل الأمن بالمدرسة، واستطاع بحرفية يحسد عليها إدارتهم وإخراج أفضل ما لديهم فى الأداء.
كندة علوش فى أفضل حالاتها الإبداعية مع المخرج عمرو سلامة رغم أنها لعبت دور الفتاة المسيحية شديدة التدين فى فيلم «واحد صحيح»، إلا أنها فى فيلم «لامؤاخذة» قدمت نفس الشخصية المسيحية بملامح مختلفة تماما عن التى قدمتها من قبل فهى فى «لامؤاخذة» شخصية قوية جادة عملية تقسو على نفسها وعلى ابنها، لكنها من الداخل هشة قلبها ضعيف لا يحتمل أى مكروه يصيب ابنها مما دفعها لعدم البوح بديانتها.
لا ننكر أن أمر إخفاء الديانة عن الآخر قد يحدث كثيرا فى الحياة خاصة بين الشباب من باب المزح، لكن إخفاء الديانة فى المؤسسات التعليمية قد يكون به مبالغة شديدة من مؤلف ومخرج الفيلم، وقد يكون لجأ لذلك من أجل تدعيم فكرة فيلمه «تقبل الآخر وعدم التمييز» - مع ملاحظة أننا لم نر بطل الفيلم منبوذا من مجتمعه لكى يحرص على إخفاء ديانته لكن تبدأ أحداث الفيلم مبنية على هذه الافتراضية.. وحتى التلاميذ الأقباط الذين شاهدناهم فى فصل منفصل عن بقية الفصول اذا نظرنا لواقعية الحدث فهذا لا يحدث فى المدارس الحكومية والسائد فى جميع المدارس أن عملية الفصل بين الطلاب تحدث فى حصص الدين فقط، ثم يندمج الطلاب مرة أخرى بغض النظر عن المستوى الاجتماعى أو الفكرى أو الأيديولوجية الدينية للشخص، أيضا ترك المخرج خياله ينطلق ليدعم قضيته ببعض المواقف التى قد تكون مقبولة مثل دخول البطل أحمد داش مسابقة الإنشاد الدينى والفوز بها بسجادة صلاة ومصحف وذهابه للوضوء مع زملائه بالمدرسة، أما مشهد استبداله صورة عيسى عليه السلام ببرواز عليه آيات قرآنية بحائط غرفته أثناء زيارة زميله فى المدرسة ففيه الكثير من المبالغة.. أجمل ما فى الفيلم كان إحساس البطل بانتمائه لبلده ورفضه للهجرة والدفاع عن عدم نزع حقه فى الحياة بلا تمييز.. فيلم «لامؤاخذة» لعمرو سلامة يستحق الاحتفاء به لجرأة موضوعه وطريقة تناوله بخفة ظل، وفى تصورى إذا تم تقديم هذه القضية بشكل بعيد عن الكوميديا كان سيؤثر على المردود الجماهيرى فى شباك التذاكر، وأعتقد أن فيلم «باحب السيما» أكبر دليل على ذلك فرغم اختلاف القضية بين الفيلمين لا ننكر أن «باحب السيما» تحفة فنية بجميع المقاييس وحمل أفيشه أسماء من العيار الثقيل سواء أمام الكاميرا أو خلفها إلا أن الفيلم لم يحظ بنجاح جماهيرى على مستوى شباك التذاكر، وقرر دخول تحدٍ مع نفسه لكى يحقق هذه المعادلة الصعبة.. تحية لكل من أحمد حلمى الذى قدم دور «الراوى» صوتاً ، وهند صبرى وآسر ياسين وكندة علوش وهانى عادل ، لمشاركتهم ودعمهم لهذه التجربة السينمائية المختلفة الجديرة بالاحترام، وتحية ايضا لهند حيدر مصممة الديكور فقد نجحت ببراعة فى نقل اجواء المدارس الحكومية للشاشة وكذلك مدير التصوير اسلام عبدالسميع.
وأخيراً أدعو لكل من يحاول الإساءة لفيلم «لامؤاخذة» واتهامه بأنه يحرض على الفتنة الطائفية وتشويه سمعة مصر أن يشاهد الفيلم بنية صافية بعيداً عن الفكر التآمرى أو تنفيذ الأجندات الأجنبية فهذه اتهامات جاهزة لكل من لا يعجبه شىء أو لمن يريد الظهور كبطل ثائر، والجمهور واعٍ لن يلقى بالاً لهذه الخزعبلات العُمورية.