بعد فوز الرئيس الاشتراكى الفرنسى هولاند استوقفتنى كلمات أمى ونحن فى سوق الخضار نشترى احتياجاتنا الأساسية وكل عربة خضار تضع سعراً يحدده البائع بمفرده حتى أن الأمتار القليلة بين كل عربة والأخرى قد ترفع السعر جنيها أو اثنين فوجدتها تقول بحسم: سوف أنتخب أى مرشح من التيار الاشتراكى كفانا اقتصاد حر وما يقال عنه أنا عشت أيام عبد الناصر وكانت الأسعار تكتب صباحا فى الجريدة وتفرض تسعيرة جبرية وهذا ما كان يساعد الناس على الحياة وبادرتها قائلة ولكن الاشتراكية انتهت من العالم كله؟ ولكنها صممت على مبدئها وهو أن الجميع لابد أن يحيا حياة كريمة لا يتحكم فينا عز ولا سالم. دار هذا الحوار بينى وبين والدتى منذ أسبوعين ونسيته ولكن بعد فوز الرئيس الفرنسى الاشتراكى هولاند تذكرته، فهولاند فاز ووجه ضربة قاسية لليمين المتطرف فى فرنسا.
وجاء الانتصار نتيجة الإحباط الكبير الذى يعيشه المواطن الفرنسى حيث هناك تزايد فى أعداد العاطلين عن العمل وصل إلى حدود 11٪ من القوى العاملة، وضعف القدرة الشرائية، وتراكم المديونية على الدولة حيث وصلت إلى نحو 900 مليار يورو وتراجع التقدميات الاجتماعية، وتدنى المستويات التعليمية فى المؤسسات التربوية، وعجز الحكومة الفرنسية عن مواجهة الأزمة المالية التى تتخبط بها أوروبا وما لها من تأثير على مصير اليورو، وارتفاع الضرائب، وغلاء أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية وخاصة منها المحروقات، وعجز فى الميزان التجارى وصل إلى حدود 60 مليار يورو.
البداية فرنسا وخاض هولاند الانتخابات بناء على برنامج يتحدث عن المساواة، ووعد بتحقيق توازن فى ميزانية الدولة من خلال فرض ضرائب على الأغنياء والبنوك والشركات الكبيرة، وأثار هولاند عاصفة فى فرنسا والخارج بتعهده بفرض ضرائب تصل إلى 75٪ على دخول من يحققون سنويا أكثر من مليون يورو «31,1مليون دولار»، كما وعد هولاند بألا يتقاضى المديرون التنفيذيون للشركات التى تسيطر عليها الدولة أو تملكها أكثر من 20 مرة من الحد الأدنى للأجور فى شركاتهم، ويعتزم خفض راتب الرئيس والوزراء بنحو 30٪ وقال: الجميع فى الجمهورية سيكونون متساوين فى الحقوق والواجبات.
برنامجه الانتخابى هو نفس البرنامج الذى تحتاجه مصر من أجل حياة كريمة متوازنة تتسم بعدالة التوزيع بغض النظر عن الميول السياسية للمصريين فبريق كلمة عدالة التوزيع والمساواة فى الحقوق وعرض المرشحين من اليسار لبرامجهم فى الصحة والتعليم قد يجذب شريحة كبيرة من المواطنين كى ينتخبوا من يحقق لهم العدالة الاجتماعية، من يستطيع أن يحافظ لهم على آليات السوق، من يضمن لهم تاميناً صحياً وتعليماً مجانياً بعد أن اصابتنا الرأسمالية بعقدة نفسية وارتبطت فى أذهاننا على أنها تعنى السرقة وذبح البسطاء فكان الملاذ للبسطاء والطبقات الوسطى هو النقيض.
وكما كتب ماركس: «ليس الوعى العام للناس هو ما يحدد وجودهم، ولكن الوجود الاجتماعى.. الاشتراكى هو ما يحدد وعيهم.
وقد رصد المركز المصرى للحقوق الاجتماعية والاقتصادية خلال النصف الثانى فقط من شهر إبريل الماضى 149حالة احتجاج، فى تصاعد جديد للحركة الرافضة للأوضاع السيئة وتمحورت مطالب المحتجين حول تحسين الأوضاع المادية من رفع الأجور وزيادة الحوافز، علاوة على صرف المستحقات المالية المتأخرة، وتثبيت العمالة المؤقتة وتحرير عقود عمل شاملة، أو للمطالبة بالتأمينات الاجتماعية مما يؤكد أن الطبقة الوسطى لا تزال تحتج ولاتزال تعتصم لا يزال العاملون والفلاحون يبحثون عما يعبر عنهم فضلا عن أن الاحتجاجات التى ضربت وول ستريت ولندن وإيطاليا واليونان، كان سببها العدالة الاجتماعية، وهو نفس الهدف الذى قامت من أجله الثورات العربية.
وكان السؤال هو... هل ونحن فى الألفية الثانية يمكننا أن نطبق اشتراكية الستينيات؟ أم يمكننا خلق مزيج من الاشتراكية والرأسمالية؟ وهل خلق هذا المزيج سيخلق اشتراكية جديدة تتماشى مع روح العصر أم اشتراكية مشوهة؟
وهل المرشحون الأربع الذين يعبرون عن الفكر الاشتراكى المستشار هشام البسطاويسى وحمدين صباحى وأبو العز الحريرى وخالد على جاءت برامجهم تطبيقا صارما للاشتراكية أم أخذت بمبادئها وروحها دون الالتزام بتعاليمها؟ وما هو وضع القطاع الخاص ووضعنا بالنسبة للعالم وارتباطنا باتفاقات واستثمارات أجنبية فى حال فوز رئيس اشتراكى؟ وما وضع المجتمع المصرى حاليا؟ وهل المجتمع نفسيا واجتماعيا مهيأ للاشتراكية ؟
العدل هو الأساس
فى البداية سألت الدكتور قدرى حفنى أستاذ علم النفس السياسى بعد السنوات العجاف من الرأسمالية المتوحشة وفساد رجال مبارك هل أصيب المصريون بعقدة نفسية من النظام الرأسمالى؟ هل سيختار المصريون مرشحاً اشتراكياً؟
فقال: لا أحد يستطيع أن يتوقع اختيار المصريين.. وما سيحدد اختياراتهم هو حاجتهم وقد تكون العدالة الاجتماعية مطلباً هاماً وحيويا للمصريين ذلك الشعب العظيم الذى تعرض للظلم والفساد والقهر ولكن قد يكون الآن الأمن أكثر أهمية من العدالة ولا نستطيع أن نتوقع اختيارات المصريين لأنها المرة الأولى التى سيدلون بأصواتهم فى انتخابات رئاسية حقيقية فليس لدينا خريطة توضح اهتمامات أو حاجات الشعب الأساسية التى سيبنى عليها اختياره على عكس الشعب الفرنسى الذى مارس الديمقراطية سنوات عديدة ومعروف أسس ومعايير اختياره حتى الرئيس الفرنسى الفائز هولاند لن يطبق الاشتراكية بمفهومها القديم ولكنها الأقرب للعدالة الاجتماعية «فالعدل هو الأساس» وعندما تكون كلمة العدل محورا أساسيا فى جميع برامج المرشحين فأتوقع أن يقرأ المواطن المصرى البرنامج جيدا لينتخب من يمثله فالمواطن المصرى لا يستهان به فهو يبحث عن العدل والتأمين الصحى والحق فى التعليم ويعرف مصلحته جيداً.
رغيف وأنبوبة
الدكتورة سامية خضر أستاذ علم الاجتماع بكلية التربية تقول: لقد عشت فى فرنسا وأعرف جيدا أن الشعب الفرنسى يعشق التغيير لا يقف على خط واحد يختار الآن الاشتراكية ثم بعد ذلك يجرب نظاما آخر وفرنسا لن تطبق الاشتراكية الصرف ولا الرأسمالية المتوحشة ولا يمكن المقارنة بينه وبيننا لأننا لم يكن عندنا اشتراكية صحيحة ولا رأسماليه متزنة.
فعبد الناصر أمم الشركات وقد كانت لدينا شركات من جميع الجنسيات ولم يكن قراراً صائبا بدرجة كبيرة فضلا عن أن الرأسمالية التى كانت فى مصر كانت رأسمالية متوحشة أديرت بشكل خاطئ حتى إن الاشتراكية فى العالم كله قد انتهت.
وبها مثالية كبرى لأنه يصعب المساواة بين شرائح المجتمع فالله قد خلق الناس طبقات وشرائح وقدرات بخلاف أنه عالميا لابد أن نسير وفق معايير العالم ولا نكون فى منطقة بمفردنا وفى كل الدول الاشتراكية هناك أيضا نخبة حاكمة لا تتساوى مع الشعب.
وعن المعايير والأسس التى تتحكم فى اختيارات الناخبين أضافت: نحن فى مصر نرشح فلاناً لندخل الجنة والآخر لا نرشحه كى نتحاشى النار.
نختار من أجل رغيف الخبز وأسطوانة البوتاجاز حتى المثقف فى مصر أصبح لا ينظر إلى برامج المرشحين بشكل واف فالمصريون سينتخبون على أساس دينى أو عقائدى ولن ينظروا إلى برامج المرشحين سوى طبقة بسيطة.
وتشير سامية خضر إلى أن الكثير من المواطنين قد بدأ بالفعل فى الانصراف عن التيارات الدينية وخاصة الطبقات الدنيا التى تريد كسب لقمة العيش فى هدوء واستقرار فأحداث العباسية وما فعله أنصار أبوإسماعيل قد سحبت كثيراً من رصيد مصداقية التيارات الدينية فالمصرى غنى أو فقير لا يريد إلا الاستقرار وعندما وجدوا أن هناك من يريد أن «يخرب فى البلد» اتجهوا لدعم الجيش بالإضافة إلى أن المصرى يكره جدا أن تغير عاداته وهذا اتضح من غضب الكثير لرؤيتهم الأعلام السوداء فى ميدان العباسية لذلك فالعقيدة والأمن والاستقرار ستتحكم فى اختيارات المصريين فى هذه الانتخابات.
التغيير مطلوب
من جانبهم أكد خبراء الاقتصاد أن الاشتراكية انتهت من العالم كله حتى أن الدول التى أسستها تخلت عنها وأن النظام الرأسمالى المصرى نظام مشوه لا يعتد به فى أى دولة.
يقول الدكتور صلاح الجندى أستاذ الاقتصاد بكلية التجارة جامعة المنصورة: التغيير فى الفكر مطلوب ومن الصعب توقع اختيارات الناخبين المصريين ونحن فى مصر لا نريد اشتراكية ولا رأسمالية يوجد ما يسمى الطريق الثالث وهو الأفضل فالدول التى أسست الاشتراكية تخلت عنها ونحن فى مصر ناقلون ولسنا مبدعين ومن غير المنطقى الرجوع لها نظرا للتغيرات العالمية فلا يمكن أن تتدخل الدولة فى كل صغيرة وكبيرة ولا يمكن أن تتخلى الدولة أيضا عن دورها فتعم الفوضى فأنا أشبه الطريق الثالث الذى يجمع بين صفات كل نظام «بماتش الكورة» يوجد فريقان ولكن لابد من وجود حكم لضبط المباراة وهو هنا الدولة التى يجب ألا تتخلى عن دورها فلا تتدخل فى آليات العرض والطلب ولكن أن تتحكم بالقانون لأن الذى يفسد أى نظام اقتصادى قائم هو الاحتكار أو المنافسة غير الشريفة فالعدو الأول للرأسمالية الاحتكار والمنافسة فنحن نريد نظاماً رأسمالياً بدون مضاربات أو احتكار أو تهريب مع وجود ضوابط وألتزام فحتى فى أمريكا توجد رقابة عن بٌعْد ولكن من خلال الإنذارات وليس قطع الرقبة.
وعن إمكانية تحقيق العدالة الاجتماعية فى ظل النظام المشترك أضاف: بالطبع فهو النظام الآمن الذى يحافظ على الاستثمارات الخاصة وفى المقابل يطور القطاع العام ويراقب الأسواق. الطريق الثالث
الدكتور رشاد عبده خبير الاقتصاد قال إن هناك نظاماً اقتصادياً يقع بين الرأسمالية والاشتراكية، وتقوم بتطبيقه حاليا الدول الإسكندنافية، وهو يسرى بقواعد السوق الحرة مع عدالة التوزيع، ويطلق عليه اسم الطريق الثالث ويطبقه الكثير من رجال الأعمال فى الغرب وعلى رأسهم الأمريكى بل جيتس الرئيس السابق لشركة مايكروسوفت والذى قام بالتنازل عن نصف ثروته للفقراء لتحقيق العدالة الاجتماعية. وطالب عبده بضرورة الاستمرار فى تحرير الأسواق مع فتح استيراد السلع التى تشهد تضخما فى أسعارها دون مبرر، مما يزيد من المعروض، مشيرا إلى أن معدل التضخم فى أمريكا لا يتعدى 0.1٪ بسبب تنوع المنتجات.
لصالح مرشحى اليسار المصرى
وعن مدى إمكانية تطبيق الاشتراكية من وجهة النظر السياسية تقول الدكتورة أميرة الشنوانى أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية وعضو مجلس إدارة المجلس المصرى للشئون الخارجية: إن اتجاه بعض الدول الأوروبية يسارا حيث فتحت فرنسا صفحة جديدة مع الاشتراكيين مع وصول رئيس اشتراكى إلى قصر الإليزيه بعد مرور 17 عاما منذ حكم آخر حكم اشتراكى للرئيس فرانسوا ميتيران وحقق الحزب الاشتراكى بألمانيا فوزا ساحقا على الحزب الحاكم فى الانتخابات المحلية حيث شهدت أوروبا أسوأ أزمة اقتصادية فى تاريخها المعاصر هذا فضلا عن ثورات الغضب التى عمت شوارع بريطانيا وأمريكا، فكثير من دول العالم الرأسمالى مع كل هذه الأحداث توصى بأن هناك تحولات فى كثير من الدول الرأسمالية تميل إلى الاتجاه نحو النظام الاشتراكى وتضيف الدكتورة أميرة أن هذه التحولات فى اتجاه الاشتراكية قد يكون لها تأثير إيجابى لصالح بعض مرشحى الرئاسة فى مصر الذين لديهم توجهات اشتراكية ولكن فى تقديرى أن هذا العامل لن يكون أساسيا فى حسم الانتخابات الرئاسية وفى تحديد اتجاهات التصويت للناخبين فى مصر لعدة أسباب من بينها نسبة الأمية المرتفعة فى مصر كما أن المثقفين والنخبة السياسية فى مصر تعلم جيدا أن فوز الرئيس هولاند الاشتراكى فى فرنسا جاء لكراهية الفرنسيين لشخصية الرئيس ساركوزى هذا فضلا عن أن مثقفى مصر يعلمون أن وصول رئيس اشتراكى إلى قصر الإليزيه لن يؤدى إلى تحول النظام الاقتصادى فى فرنسا بالكامل إلى الاشتراكية ولكن كل ما هناك هو أن فرنسا والدول الأخرى الأوروبية التى بدأت فى هذا التحول سوف تظل دولا رأسمالية ولكن الجديد هو اهتمام هذه الأنظمة السياسية الاشتراكية باحتياجات الشعوب ومصالحها حيث سيكون لها أولوية فى اهتمامات حكومتهم بوضع خطط تعمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية وتخفيف الأعباء على المواطنين وفرض المزيد من الضرائب على الأثرياء والمؤسسات الاقتصادية الكبرى وذلك مثلما حدث فى بريطانيا فهى دولة رأسمالية رغم حكم حزب العمال لها كما ظلت الولاياتالمتحدة دولة رأسمالية رغم ميول الرئيس أوباما الاشتراكية وفى مصر جميع مرشحى الرئاسة بلا استثناء «بصرف النظر عن مدى مصداقيتهم» يؤكدون على أن برامجهم سوف تهتم بمحدودى الدخل.