لا أريد صب المزيد من الزيت علي نيران الطائفية التي نسعي جميعا لإخمادها، لكن بعض ما يرد علي لسان بعض أقباط المهجر يستحق التوقف والمراجعة، ورغم أنه قد يبدو تعبيرا عن أفراد وليس توجها عاما، لكنه بمثابة شرر قد يشعل نيرانا، ومعظم الحريق من مستصغر الشرر. أتوقف اليوم عند تصريح، وبيان في غاية الخطورة. الأول للناشط القبطي في الولاياتالمتحدة مجدي خليل وهو بالمناسبة صاحب منظمة حقوقية تعمل في القاهرة، وصف فيه احتجاجات الأقباط علي جريمة الإسكندرية، خلال لقاء مع تليفزيون "بي بي سي العربي" قبل أيام، بأنها ثورة قبطية، والثاني بيان وصلني علي بريدي الإلكتروني مصحوب بتوقيع رئيس الجمعية الوطنية القبطية الأمريكية موريس صادق صادر عن لجنة خماسية يتضمن إعلان دولة قبطية في مصر. وحسب البيان فإن مؤسسي هذه الدولة المزعومة يدعون إلي حكم ذاتي للأقباط علي شاكلة "دولة أكراد العراق"، وتنظيم سياسي مستقل عن الحكومة المركزية، ومحاكم خاصة وقضاة مسيحيين يحكمون وفقا لأحكام "الكتاب المقدس"، ومحاكم مدنية تطبق القانون الفرنسي، ووزارات مقابلة للوزارات الحكومية بما فيها الشرطة والمخابرات وأمن الدولة، وجامعات ومدارس قبطية، تدرس باللغة القبطية. وستقوم "الدولة القبطية" بتعيين سفراء أقباط لها في كل الدول أسوة بالفاتيكان، وتعمل الدولة القبطية من الحكومة المركزية التي يقتصر دورها علي إدارة شئون رعاياها المسلمين، علي أن تشترك مع الحكومة المركزية في إدارة الجيش. مشيرين إلي أنهم سيلتقون بسفراء الدول الخمس في مجلس الأمن بنيويورك، وعدد من أعضاء الكونجرس وأعضاء لجنة الحريات الدينية الأمريكية لبحث إمكانية دعم الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية ودول العالم للدولة القبطية. انتهي البيان والتصريح، وأعلم أن غالبية الأقباط الذين يعيشون في مصر أو خارجها يرفضون هذه التخاريف، وربما يدعون إلي الكشف علي عقول كل من يردد هذه الترهات، فما حدث من احتجاجات قبطية عقب جريمة الإسكندرية كان تنفيسا عن غضب في الصدور، تعاملت معه الأجهزة الأمنية بالحكمة وضبط النفس، وراعت مشاعر الناس، وطبقت روح القانون وتساهلت مع مظاهر الخروج عليه، لكنني أعتقد جازما أن أيا ممن شارك في هذه الاحتجاجات، لم يدر بخلده كلمة الثورة لأنها غير متحققة علي الأرض ولا تتوافر لها شروطها فما حدث كان جريمة إرهابية استهدفت الوطن، حتي وإن ضربت مصلين خارج أبواب الكنيسة. أما السادة أصحاب خرافة الدولة القبطية فلا أعلم من أين جاءوا بهذا الخيال المريض، وإذا تركنا كل الكلام عن التعايش والمواطنة والوحدة الوطنية وغيره من المبادئ المستقرة في مصر منذ 14 قرنا، فيجب أن نسأل الأخ موريس صادق وحوارييه الخمسة كيف سيقيمون حكما ذاتيا للأقباط وهم ينتشرون في كل شارع وكل حارة، إلا إذا كان المفهوم أن يعلق علم الدولة القبطية علي كل منزل قبطي، وتتحول المنازل إلي دول حرة مستقلة. مصر ليست مثل العراق، ولا السودان، وأقباطها ليسوا أقلية دينية بالمعني المفهوم في تلك الدول، ولا يعيشون في منطقة جغرافية واحدة، وأنقل عن الكاتب الكبير علي سالم حينما طرح قبل الثورة فكرة غربية بتقسيم العالم العربي علي أسس دينية، قال سياسي مصري ليس معقولا أن أترك الإسكندرية وأعيش في أسيوط! وكل ما أرجوه من مشعلي الحرائق الطائفية أن يراجعوا تاريخ مصر وجغرافيتها جيدا، فمصر منذ وحدها الفرعون نارمر المعروف باسم مينا قبل آلاف السنين، وهي تعيش في حدود جغرافية واضحة المعالم، وتكاد تكون هي الدولة الوحيدة علي مدار التاريخ التي لم تنكمش مساحتها أبدا، لكنها كانت قابلة للتوسع وضم بلدان أخري إليها في مراحل زمنية عديدة. والتعدد الديني في مصر لا يدعمه تقسيم عرقي بين المواطنين، فالمصريون جميعا من أصول واحدة، صحيح أن التركيبة العرقية لمصر شهدت دخول جنسيات متعددة منهم البطالمة والمغاربة والأتراك والفرنسيون والعرب والأفارقة، لكنها تكاد تكون البلد الوحيد في العالم الذي امتزجت فيه الأعراق وتزاوجت وخلقت خليطا واحدا موحدا، ولم تنقسم أبدا إلي تجمعات عرقية منعزلة.