لم أتعود أن أكتب تحت إلحاح الحدث.. أفضل دائما الكتابة بعد تأمل، واليوم أكتب كتابة غاضبة.. بمناسبة أحداث كنيسة القديسين.. لكنها كتابة لا تخلو من تأمل أيضا، بقراءة مظاهر التعصب الديني المتزايدة من مصريين ضد مصريين.. شارفنا العقد الثاني من الألفية الثانية، ومازلنا برابرة، مازلنا أوغادا، لا نختلف عن إنسان الغاب طويل الناب إلا في طول اللسان والكذب والافتراء.. الكلام نجس، أما الكتابة فظاهرة، هكذا قال الفيلسوف.. ونحن نجيد الكلام فقط.. كلامنا كله نجس. لقد وجب الاعتذار لا العزاء.. الدول المحترمة يجب أن تعتذر لأبنائها حين تخطئ في حقهم، خاصة لو كان هؤلاء الأبناء أقلية، خاصة لو كانت الأقلية مضطهدة، خاصة لو كان الاضطهاد مبنيا علي اختلاف العقيدة.. الدول المحترمة محترمة أولاً بين أبنائها ومواطنيها بلا تمييز وليس بين سائر الأمم فحسب. والدولة ليست فقط حزب الأغلبية، وليست فقط تشكيلات المعارضة، وليست فقط المؤسسات المدنية، إنها تلك المنظومة برمتها.. الاعتذار عن الحادث وعن أحداث كثيرة أخري شهدتها الأقلية القبطية في ظل دستور فرض علينا منذ أربعين عاما أن يكون دين الدولة الإسلام، اعتذار واجب، للتاريخ، لحقن الضغائن.. ربما ترفع هذه الدولة رأسها مرة أخري بين الأمم لو اعترفت بالخطأ الإنساني بدلاً من التمحك في مقولة بائتة من نوعية «عملها الإرهابيون ونحن لا ذنب لنا». لأ! عملها مسلمون ينادون بأن تلغي دولة الإسلام حقوق المواطنة.. عملها الرجل البسيط الذي سمح لشيخ المسجد بتجريده من عقله مقابل وعد بحورية في الجنة.. عملتها السيدة المحجبة التي سئلت عن هويتها فقالت «مسلمة» قبل أن تقول «مصرية».. عملها المدرس التافه وهو يشرح أمام فصل من التلاميذ المسلمين والمسيحيين معني آية في القرآن مقررة في منهج اللغة العربية ولم يخطر بباله ولا ببال مقرر المنهج أن يربطها بالدين المسيحي وبمعانيه النبيلة في دولة تضرب جذورها في عمق هذه الديانة..عملها إمام المسجد الجاهل الذي ادعي أن الإسلام دين التسامح وهو يكرر ما جاء في الأديان جميعًا بلا أدني استثناء من دعوة لاستباحة الدماء والمال في الجهاد في سبيل الله.. عملها الطفل الذي ضرب ابني في المدرسة وهو في سن السابعة لأنه لايصوم، والطفل الذي دق علي باب الكنيسة أثناء القداس وهو يصيح «يا ليسون ياليسون، حنا وجرجس في الكانون».. عملها أمهات وآباء هؤلاء الأطفال الذين ربتوا علي أكتافهم أو ضحكوا من لعبهم ولم يقولوا كلمة «عيب يا ولد، اختشي يا بنت».. عملها مسلمون تتبرأ منهم الصحافة والإعلام كلما حدثت مصيبة أو مجزرة، في مصر أو في السودان، في الجزائر أو في العراق، ولا يتبرأ منهم العامة أو الأغلبية المغيبة. عندما تحدثت هنا منذ فترة عن مزايا الدولة العلمانية وقلت إنها تكفل حرية الأديان وتحميها، وصلتني إيميلات تردد نفس الكلام التافه الذي يربط بجهل ورعونة بين العلمانية والإلحاد.. ووصلتني إيميلات أخري تشد من أزري وتدافع عن الفكر بأساليب متنوعة، من بينها الأسلوب المنهجي والتاريخي الذي أثبت بما لا يقبل الشك أننا بحاجة ماسة لتبني النموذج العلماني.. الآن فوراً. ليس فقط للاعتذار عن تخاذلنا في الدفاع عن أبناء هذا البلد، ولكن للاعتذار عن التعديل الدستوري الذي لم يكن حصيفا.. وحتي لو كان كذلك في زمنه، فهو لم يعد كذلك الآن.. فماذا ننتظر؟ هل غابت العقول أم أن صنعة التفكير باتت مغشوشة؟ الدساتير صنعها ناس مثلي ومثلك، وسيغيرها ناس مثلي ومثلك أيضا. لكن لاتصدقني أيها القارئ، أرجوك.. صدق فقط أني صادقة.. وأبحث بنفسك عن معني كلمة «علمانية».. لقد كتبت الكتب ونشرت المقالات وتعبت الألسن من ترديد هذا المطلب، ولا حياة لمن تنادي..صدقني، لا أريد التغرير بك في لعبة سياسية، فليس لدي أدني انتماء سياسي.. وأعي أن لدينا علمانيين جددًا يلعبونها «دين» أيضا وكأن الفصل بين الدولة والدين الذي تنادي به العلمانية ليس سوي ورقة رابحة في أيدي البعض.. وليست لدي رغبة في استقطابك لفكرة أو لأيديولوجية، كما أني لا أسعي لمنصب منذ استقلت من عملي الحكومي هنا، وفضلا عن ذلك أنا كاتبة مهاجرة كنت لسوء الحظ أو لحسنه أقضي إجازة رأس السنة في مصر هذا العام.. عام الحزن علي تقسيم السودان، علي نتائج ديمقراطيتنا المجيدة، علي بقاء الحال علي ما هو عليه فيما يخص الأوغاد الذين استباحوا دماء اخوانهم باسم الدين. مصادفة هي أم ضرورة؟ في الشهر القادم سأقدم ورقة بحث عن صورة الأقباط في السينما المصرية وعن السينما المسيحية التي تنتجها الكنيسة القبطية.. تصور معي أني أعمل علي كتابة هذا البحث الآن.. فماذا بوسعي أن أقول، بعد تأمل الأوضاع ومحاولة فهم لوغاريتمات التعاسة؟. بعض المسئولين عن غياب الوعي بما يحدث للمسيحيين في بلادنا هم أنفسهم من يدعون الوعي بواقع الحال، مثلا أصحاب فيلم «حسن ومرقص» الذي كتبت عنه هنا منذ سنوات.. عملها السينمائيون أيضا، علي طريقتهم في التسطيح وتطييب الخواطر وركوب موجة التسامح الذي لم يؤسس له أحد، فبات مجرد كلام فارغ، دعاية بلا سند.. وربما عملتها أنا أيضا، تلك الفعلة الشنعاء، عندما هاجرت، هربت بجلدي وجلد أولادي من براثن التخلف.. واليوم، أريد أن أقدم اعتذارا متواضعا لأسر القتلي والجرحي في حادث الكنيسة لأني لم أكتب بما يكفي، لم أكتب بما يكفي. قبل ساعات فقط من إقلاع الطائرة العائدة بي إلي وطني البديل، وطني اللا إسلامي، اعتذر لأصدقائي وإخوتي المسيحيين.. أقول لهم إني مصرية مثلكم، وإن الذين تخلوا عن مصريتهم هم من فعلوها.. فلا تقلدونهم، لا تتخلوا أنتم أيضا عن مصريتكم فيعميكم التعصب.. تمسكوا بحق المواطنة، فأنتم باقون ما بقي هذا الحق.. وإنا له لراجعون.