في الصباح، التاكسي من شارع وادي النيل إلي الزمالك، جزيرة العرب ثم جامعة الدول العربية، السائق يتوقف عند أول فرشة جرائد، ثم يصيح: الجمهورية. زحام حول الفرشة نظرا لموقعها الاستراتيجي، يصيح مرة أخري في توتر لأنه يقف في الممنوع: الجمهورية يا بني. شخص لا نراه يصيح: إديله الجمهورية يابني. غلام صغير يمسك بجريدة ويسأل: هي دي..؟ الشخص المختفي وسط الزحام يعنفه: مش هي دي يا بن الكلب.. اللي جنبها.. يحصل السائق علي جريدته وينطلق، وتبدأ ندوتنا بعيدا عن الكاميرات والميكروفونات ومراكز الأبحاث وربما بعيدا أيضا عن كل الضمائر، قال السائق: الواد ما بيعرفش يقرا.. أهو ده بقي اللي حا يطلع حرامي.. ده بقي اللي حايسرق كل حاجة إيده تطولها.. الموبايلات بقي وأي حاجة. لم أفكر في ذلك، كل اللصوص أو معظمهم يجيدون القراءة والكتابة، هل تعتقد أن الذين يسرقون أراضي الدولة جهلاء؟ أنا أطلب محو أمية الأميين ليس لأقلل عدد اللصوص فهذه مهمة جهات ومؤسسات أخري، أنا فقط أبحث عن الكنوز المدفونة داخل البشر وأريد استخراجها إلي النور لكي تؤدي دورها في إثرائنا وإثراء الحياة في مصر. الأمي يشعر بالتعاسة وبأنه أقل من كل البشر، وهو ما يسلمه إلي الشعور العميق بذنب لم يقترفه، الغلام كان يشعر بالانسحاق وهو يعطي السائق الجريدة التي فشل في التعرف عليها علي الفور. هذا المسكين حكمت عليه الأيام وربما نحن أيضا بأن يبيع الحروف مطبوعة علي الأوراق بغير قدرة علي تذوق ما فيها، هل تستطيع تخيل مدي تعاسته. أعرف إنك قد بدأت تشعر بالضيق مما أكتبه عن حتمية أن يقوم هذا الجيل بمحو الأمية في مصر، وبعد ذلك ستشعر تجاهي بالكراهية ربما لأنني عادة أهتم بأشياء لا تراها أنت ضرورية، والكارثة هي أنني لا أكتفي بذلك بل أمشي في شوارع الدنيا منبها ومحذرا ونذيرا. طبعا ستتفجر الأسئلة.. أين هي الأماكن.. أين هي الإمكانيات؟ لو استطعت أن أثير اهتمامك كحزبي مسئول فبالتأكيد أنت نفسك ستحصل علي إجابات شافية تبدأ بها عملك الذي أراه أكثر القضايا نبلا وأهمية، انظر حولك، ستجد دائما قطعة أرض فضاء داخل المدينة وداخل القرية، في المدينة هي ناتجة عن هدم عقار وإلي أن يبدأوا في بناء عقار جديد يستخدمون هذه الأرض الفضاء كجراج. ابدأ في أي مكان وسيتبعك الآخرون، حرف واحد لطفل واحد كل يوم، هل تعرف كرسي الحمام الشهير، هو أرخص كرسي في العالم وسهل الحمل للغاية، كل طفل سيحصل علي كرسي ليجلس عليه في ساحة الجراج. كما سيحصل علي لوح أردواز وطباشير، وأهل الخير في مصر كثيرون، هم أنفسهم سينزلون إلي المواقع ويشاركون في تعليم الأطفال الذين هجروا الدراسة لسبب من الأسباب. أريدك أن تلاحظ أن الحضارة ذاتها بدأت بعد أن اكتشف الإنسان الكتابة، وبذلك توافرت له الوسيلة لنقل المعرفة من جيل إلي الجيل الذي يليه. من المستحيل أن تستمر الحياة في بلد ما بغير إثارة الاهتمام بالشأن العام حتي في أضيق الحدود. مع ملاحظة أن ادعاء الاهتمام أمر مختلف عن الاهتمام. لقد طلبت من قبل "بالاهتمام" بعلامات الطرق، كما طالبت "بالاهتمام" بتعليق لوحات تحمل أسماء الشوارع والحواري، ولم يستجب أحد، ولم يعلق أحد.. وكأننا وصلنا إلي تلك الدرجة التي نؤمن فيها جميعا بأنه لا فائدة في العمل العام. للمرة الأخيرة، لكي لا يتهمني أحد بالقسوة، محو الأمية هو المشروع القومي الواجب والمتاح.