من اعتياداتي كل يوم جمعة، أن أجلس نحو نصف ساعة في مقهي بمصر الجديدة، حيث صادفت أمس الأول مشهدا طريفًا للغاية: ثلاثة شباب بينهم (طاولة مفتوحة)، كانوا يتسامرون لا يلعبون.. وفجأة قرر المتواجهان منهما أن يتباريا في رمي (الزهر) الذي يسميه الأصوليون (النرد).. بحيث إذا حصل أحدهما علي (بفة)، رقمًا مزدوجًا.. فإنه يصفع الآخر علي قفاه. أذهلني المشهد، خصوصاً أن الشابين يتميزان بهيئة محترمة وملابس نظيفة ونظارات طبية ومستوي اجتماعي لافت، ولاسيما أن الموقف الغريب تحوَّل إلي منطقة ضحكات.. لا يجد فيها أي منهما أي غضاضة.. بل إنهما لم يسعيا إلي استطلاع آراء المحيطين في ما يفعلان.. وشاركهما الثالث حالة الهزر.. وبعد دقائق وصل زميلان لهما.. فتشاركا بدورهما في الجلسة التي أصبحت خماسية.. وصار الخمسة يصفعون بعضهم البعض علي الأقفية.. مع مزيد من الضحك المعبر عن انبساط حقيقي.. فطالت جلستي وأنا أتابع هذا المشهد نحو الساعة.. حيث تركتهم بينما الأقفية لم تزل تصفع في سعادة بالغة. هل هذا شباب مصر؟.. بالتأكيد لا.. لكنه فئة منه، بعض الشباب منشغل بمستقبله ولا يجلس أصلاً في المقاهي.. البعض محبط وعاطل.. البعض يقضي وقته منكبًا علي أجهزة اللاب توب في مقاهٍ عصرية مثل كوستا وسيلانترو وستاربكس.. البعض يعتكف في المساجد.. البعض يترهبن.. البعض يهاجر.. البعض يلقي بنفسه في البحر بحثًا عن فرصة تهريب إلي أي دولة أوروبية.. البعض يدمن المخدرات.. البعض يحب.. البعض يتحرش.. البعض ينخرط في جماعات عنيفة ومتطرفة.. البعض يؤهل نفسه لعله يليق بعصر مائج هائج.. البعض يسرق.. البعض نائم.. والبعض يضرب نفسه بالقفا وهو في حالة سعادة مثيرة للانتباه. هل هذا الموقف تعبير عن مشكلة اجتماعية.. أم أنه تعبير عن حالة مخبولة عابرة.. أم أن هذا الشباب قد يندهش تماماً حين أطرح هذه التساؤلات ولن يجدوا فيما كانوا يفعلون أي أمر غريب.. وأن اندهاشي ناتج عن انعدام عصريتي، وأنه دليل ابتعادي عن الأجيال الجديدة.. وإني أصبحت رجل (دقة قديمة)؟ هل هو ظاهرة؟ هل هو موقف يقتصر في دلالته علي أن الشباب لا يجد طريقة ملائمة لكي يتسامر؟ هل هو تعبير عن مشكلة قضاء وقت الفراغ؟ هل يجب علي كل الشباب أن يقوم بأمور نتوقعها.. أم أنه من حقه أن يفعل أي شيء ولو لمرة واحدة في حياته.. علي اعتبار أنهم قد لا يلجئون إلي هذه الطريقة مرة أخري في أي وقت آخر؟ ربما أجد في هذا الذي رأيته مشكلة حقيقية تعبّر عن حالة فراغ.. عن أن فئة من الجيل..لا الجيل كله.. لا تعرف ماذا تفعل.. ولا كيف تقضي وقتها.. تريد أن تنسي بطريقتها.. وأن المشهد الذي رأيته هو ذلك الذي يتطرف فيما بعد ويتحول إلي إدمان مخدرات.. أو إلي إحباط.. أو إلي ابتعاد عن المتابعة والمشاركة في الحياة العامة.. أو رفض الاندماج.. ما لفت نظري في المشهد ليس ما فيه من تصرف غريب وإنما أن الشباب الخمسة لم يكونوا مشغولين إطلاقًا بأن يتابعوا ردود أفعال من حولهم علي ما يفعلونه.. بل لم ينشغل بهم أحد.. ولم ينزعج.. والمدهش أنهم كانوا يتصافعون علي الأقفية بينما تجري مباراة الأهلي والاتحاد.. وليسوا مشغولين بها علي الإطلاق. في مراحل عمرنا مررنا بمثل هذه المواقف.. ربما لمرة واحدة.. وربما بأساليب مختلفة..لحظات طيش عابرة.. أو تفاهة ساذجة.. أو كما يسميه الشباب الآن (تهييس).. ويكون هذا عاديًا وغير لافت.. الخطورة هي أن تزيد أعداد تلك الحالات وأن تمتد فترات (التهييس).. وألا ينتبه إلي أنه (تهييس).. وألا يثير انتباه المحيطين. فيما مضي كان المصريون ينزعجون جداً إذا رأوا مشهدا خارج السياق الذي اعتادوه لتفاعلات الحياة.. وكانوا يعلقون.. وربما يتدخلون.. وكنا نعتقد أن هذا أمر سييء وسلوك غير حميد.. علي أساس أن كل شخص حر فيما يفعله.. حتي لو انتحر.. الخطر الآن ليس في أن الشباب كانوا يضربون بعضهم علي الأقفية.. حتي إن رقابهم أحمرّت..ولكن في أنه لا القهوجية ولا رواد المقهي ولا أي شخص رأي المشهد قد انزعج. أو حتي تأفف..أو وقف ليتساءل: ما هذا الذي يفعله الفارغون؟ الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net البريد الإليكترونى: [email protected]