كتب - عبد النور خليل لا اتجاوز الحقيقة إذا قلت إن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في عمره الرابع والثلاثين، بل ومنذ عدة دورات أخري سابقة قد تحول إلي مهرجان «الحفل الواحد» وهو حفل الافتتاح.. وأن إدارة المهرجان والقائمين علي تنظيم نشاطاته ركزوا اهتمامهم الكامل علي حفل الافتتاح وأهملوا الكثير مما يفترض أن يقدمه المهرجان من أنشطة ثقافية جادة تحتفي بجمهور مصري عاشق لفن السينما أيا كان لونها وجنسها وانتماؤها.. واكتفوا بالشعارات العريضة التي تخلو من مضمون موضوعي جاد.. مثل «مصر في عيون السينما العالمية».. إن السينما العالمية يا سادة لم تنصف مصر يوما فيما قدمته من أفلام، ولم تعن بالحضارة المصرية العريقة، بل كان يهمها الجو الفرعوني الذي تثير به انتباه رواد السينما في العالم فقط.. وفروع الشركات العالمية التي صورت هذه الأفلام في حضن الآثار المصرية الخالدة، كانت بالدرجة الأولي تسعي إلي استغلال فائض ايراداتها المكدسة في مصر، وقت كان في مصر قانون الرقابة علي النقد الذي يجبر علي هذه الشركات ألا تخرج غير 40% من ايراداتها إلي الخارج وتبقي 60% في مصر تنفقها مجبرة داخل بلادنا.. بهذا المنطق نشأت فكرة تصوير أفلام مثل «وادي الملوك» و«الوصايا العشر» و«موت علي النيل» و«الخرطوم» و«الإنجيل» و«ذهب النيل» و«القاهرة» و«فرعون الذهبي».. وأغلب هذه الأفلام تضمنت الكثير من الإساءة إلي الحضارة المصرية، مثلما قدم سيسل دي ميل زاعما أن اليهود في مصر كانوا هم بناة الهرم كعبيد تسحقهم الأحجار التي ينقلونها بالسخرة، ويفقدون أرواحهم تحتها.. ودعوني أصفق هنا للأثري الكبير د. زاهي حواس في الندوة التي عقدت تحت هذا الشعار «مصر في عيون السينما العالمية» وهو يقول صراحة إن السينما العالمية في كل ما قدمته من أفلام صورت في مصر، أو تناولت حضارة مصر لم تنتصر لها، بل أساءت إليها. والندوات حكايتها حكاية.. كما قلت كانت مجرد شعارات فضفاضة مثل «السينما الأفريقية إلي أين؟!» ندوة مديري المهرجانات الشرق الأوسطية الذين يرددون كلاما معادا مكررًا عن تضارب المواعيد وتداخلها ويفضلون بالدرجة الأولي أن ثمة قوي خارجية تسيطر علي بعض هذه المهرجانات من خلال مديرين ومنظمين من جنسيات أخري كما هو الحال في مهرجان الشرق الأوسط الذي يتولاه مديرون ومنظمون من فرنسا.. ونحن في مهرجان القاهرة نتباكي ونصرخ بأننا لا نجد التمويل الكافي لمهرجاننا حتي نحافظ علي صفته كأول مهرجان سينمائي عالمي في الشرق الأوسط.. رحم الله الكاتب الكبير سعد الدين وهبة الذي كان يجعل المهرجان صاحب كيان معنوي يحقق فائضًا من الربح بعد كل دورة مستغلاً كل الإمكانيات المتاحة من وفرة في الأفلام الجيدة التي يقبل عليها الجمهور، وإمكانية الحصول علي تواريخ ثابتة محددة لأكثر من عشرين دار عرض سينمائي ترتبط بتقديم أفلام المهرجان.. والحصول علي كم كبير من الدعاية لبرامج المهرجان اليومية في التليفزيون والصحف والمجلات مجانًا. تسول دور العرض في الاجتماع اليتيم الواحد لما يسميه المنظمون لمهرجان القاهرة «اللجنة العليا الاستشارية» وهي غير اللجنة العليا التي لا تتجاوز أصابع اليدين، وتنفرد بكل قرارات تنظيم المهرجان علي غير ما ألفناه في الثمانينيات والتسعينيات حيث كانت هناك لجنة عليا واحدة تملك القرار.. أقول في هذا الاجتماع اليتيم، برزت مشكلة دور العرض التي تعرض أفلام المهرجان.. وشكا عزت أبو عوف، ومعه المسئول عن عروض المهرجان، أنهم لا يجدون دور عرض تقدم أفلام المهرجان، وأن المتاح فقط داران أو ثلاثة وأنه لا توجد دور عرض لثلاثة أو أربعة أفلام مصرية - لأول مرة منذ أعوام - داخل المسابقة الرسمية.. هل هذا منطق.. لقد تحرك موعد افتتاح المهرجان لكي لا يتعارض مع الشهر الفضيل رمضان، وحدد له تاريخا معلنا بعد العيد الكبير عيد الأضحي، وكان معروفا منذ البداية أن عددا من الأفلام المصرية سوف يحتل دور العرض، ربما لشهور عديدة بعد العيد، وكان يجب علي إدارة المهرجان ومنظميه أن يسعوا لتأمين عدد من «الشاشات» ولا أقول الدور كاملة فأكثرها يضم أربع شاشات أو خمسًا ويضمنون أن يعرضوا فيها أفلام المهرجان.. ولولا أن تطوع ممدوح الليثي، رئيس جهاز السينما بتخصيص دار عرض فاميلي سينما في المعادي لتقديم عرض واحد لكل فيلم مصري داخل المسابقة وخارجها، لما وجدت الأفلام المصرية دارا لعرضها في حفل السواريه، وناهيك عن الصعوبات التي يتكبدها الصحفيون للعودة من المعادي بعد منتصف الليل. حتي هذه الأفلام المصرية، التي تمثل السينما المصرية، في مسابقة المهرجان اختيرت بمبدأ «المتاح» وليس الأجور.. وأتوقف كثيرًا أمام أولها وهو فيلم «الشوق» إخراج خالد الحجر.. تمويله المشبوه فرض عليه أن يقدم صورة مهلهلة لمجتمعنا المعاصر، واستعراض صور هابطة مشوهة لهذا المجتمع الذي تحكمه سيدة هي سوسن بدر - وهي نجمة كبيرة متفوقة بلا شك - تبدو عليها مظاهر الثراء فجأة بثروة جمعتها من التسول لكي تمول بها كل فقراء الحارة المصرية، المعدمين وأختان روبي وأختها تضطران في النهاية إلي السقوط بسبب الحاجة.. يا سادة.. يا صناع السينما في مصر إن التمويل الخارجي لأفلامكم لا يرتضي المشاركة إلا في إنتاج أفلام تصور الجوع والفقر والضياع في مجتمع الدول النامية لكي يقدمها لمواطنيه ليظهر لهم النعيم والرفاهية التي ينعمون بها.. والأمثلة لا تعد ولا تحصي في تجارب كثيرة سابقة. المهرجان لا يشكو ضائقة مالية فاجأتنا سهير عبدالقادر. نائبة رئيس المهرجان أن المهرجان لا يشكو أي ضائقة مالية.. وأن هناك ما يقرب من 16 ممولاً ساندوا المهرجان هذا العام - راجعوا معي الصفحة الأخيرة من مجلة المهرجان اليومية «بانوراما» - ونائبة الرئيس معها حق، خاصة إذا عرفنا أن مساهمة وزارة الثقافة قد تجاوزت هذا العام خمسة ملايين جنيه.. ومع الاعتراف بعدم وجود ضائقة مالية، كان المفروض أن يتحرر الأداء ويأخذ مهرجان القاهرة مكانه الطبيعي كالمهرجان العاشر بين المهرجانات الدولية، لكن ما يحدث غير هذا تمامًا.. المال ذهب إلي بهرجة غريبة مثل الطباعة الفاخرة للكتب عن المكرمين، داخل مصر وخارج مصر ومصر في عيون السينما العالمية والثراء الفاحش الذي أنفق علي أفيشات المهرجان التي تحتل دار الأوبرا ومنطقتها، وأنا لا أدري ما هي الحكمة في أن تتضمن بعض هذه الأفيشات نصف وجه نفرتيتي رمز مصر.. ولا أدري الحكمة في اختيار فيلم «عام آخر» لافتتاح المهرجان، وقد تكرر عرضه مثل الكثير من الأفلام في مهرجانات أخري مثل «دمشق» و«الشرق الأوسط» وغيرها، ولماذا لم يكن الفيلم الأرجنتيني الإسباني «السر في عيونهم» الذي تفوق علي كل الأفلام الناطقة بلغة أجنبية وفاز بجائزة الأوسكار هذا العام، وهو موجود وعرض في أكثر من عرض في الدور التي نجح المهرجان في اقتناصها؟! ما علينا.. رئيس المهرجان عزت أبو عوف يقول إن المهرجان عبء ثقيل يحمله للسنة الخامسة.. ولا أدري ولا أعرف هذا العبء؟! فهو لا يتعب نفسه ويحضر مهرجان السينما العالمية، فلم أسمع أنه ارتحل إلي برلين أو كان أو فينسيا فقط لكي يختار أو يشاهد ما يعرض فيها من أفلام، أو حتي يرتاد الأسواق التجارية العالمية التي تقام مصاحبة لهذه المهرجانات وتدلل علي الإنتاج السينمائي العالمي من كل الجنسيات، وترحب الكثير من الشركات المشتركة فيها بتقديم إنتاجها الجديد في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بشهرته العريضة تسانده الحضارة المصرية أصل كل الحضارات.. أقول للفنان الكبير عزت أبو عوف إن هناك قانونًا أصدره البرلمان الإيطالي ألا يستمر رئيس مهرجان فينيسيا في رئاسته للمهرجان أكثر من أربع سنوات، وشتان في المفاضلة بين مهرجان فينيسيا وبين مهرجان القاهرة. الأحد القادم فيتو.. علي مهرجان الحفل الواحد