أوصي المؤتمر الدولي الذي نظمته دار الكتب والوثائق القومية تحت عنوان "140 عاما من التنوير" بمناسبة مرور 140 عاما علي إنشائها، والذي انتهت فعالياته أول أمس، بضرورة إعطاء مجموعة الخرائط النادرة التي تمتلكها الدار المزيد من الاهتمام، وزيادة المكافأة التي يتقاضاها محققو التراث، بهدف تشجيع جيل جديد من المحققين علي الانضمام لهذا الحقل من العمل، بعد أن شهد المؤتمر شكوي العديد من المحققين القدامي المصريين والعرب من أن مجال التحقيق لم يعد جاذبا للمزيد من الشباب، وأن كثيراً ممن يعملون به لا يتحلون بالمهارة والاهتمام اللازم. المؤتمر الذي استمر لأربعة أيام أوصي أيضا بضرورة أن تولي أقسام اللغة العربية في الكليات والجامعات المختلفة المزيد من الاعتناء بمادة تحقيق التراث، كذلك إتاحة مقتنيات دار الكتب بصورة أكبر وأسهل للباحثين، وذلك عبر رقمنة ما لم يتم رقمنته منها، وإتاحتها جميعا علي موقع الدار، وإضفاء المزيد من الحداثة علي الأدوات التي يتعامل معها الباحثون. كانت الجلسة الافتتاحية التي عقدت مساء السبت الماضي بالمسرح الصغير وحضرها عدد كبير ضم وزير الثقافة الفنان فاروق حسني، وشيخ الأزهر أحمد الطيب، ومفتي الجمهورية الشيخ علي جمعة، وغيرهم من الضيوف العرب والأجانب، شهدت عدد آخر من التوصيات، حيث طالب الدكتور محمد صابر عرب، رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق القومية، المجتمع المدني بتقديم العون والنصيحة لدار الكتب، ودعا أصحاب المكتبات الخاصة إلي التبرع بمكتباتهم إليها ليكون الأرشيف المصري من أقوي الأرشيفات في العالم. ووصف أكمل الدين إحسان أوغلو، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي وممثل عام الضيوف دار الكتب بأنها «قلب مصر»، ودعا الجميع من العلماء وحماة العلم أن يتعاونوا وأن يردوا بعض الدين لها، وقال: تعد دار الكتب المصرية بباب الخلق حلقة تصل قاهرة ما قبل القرن 19 بقاهرة ما بعد القرن التاسع عشر، وبهذه الدار حافظت مصر علي التراث بإسلوب أقامته علي تراكمات القرون الماضية"، كما أكدت ليلي جلال رزق، المشرف العام علي دار الكتب والأمين العام للمؤتمر، علي حاجة الدار لإقامة صلات ثقافية مع العالم وعمل تعاون بين المؤسسات الثقافية العربية، وقالت: سعت الدار للارتباط بالمجتمع المدني من خلال إنشاء جمعية أصدقاء دار الكتب لتيسير الإطلاع وإحياء التراث. وأكد محمد صابر عرب قائلا: دار الكتب أول من أعتني بتحقيق التراث وقد تأسست مطبعتها عام 1927، لتنشر «كتاب الأغاني» و«كتاب الأفعال» و «تفسير القرطبي» و«النجوم الزاهرة» وعيون الأخبار و«أساس البلاغة»، إلي جانب نشر دواوين التراث الشعري والموشحات الضخمة. عرض خلال الاحتفالية فيلم تسجيلي عن الدار جاء فيه أن محمد علي والي مصر اهتم بأن تكون لحكومته مكتبة مركزية قريبة من منطقة حكمه في القلعة وبناء عليه تم تأسيس الدار بسرايا الأمير مصطفي فاضل بدرب الجماميز عام 1870، وحينما ضاقت اتجهوا لعمل مكتبة في باب الخلق أتيحت للجمهور عام 1904، إلي أن شكل الرئيس محمد أنور السادات الهيئة المصرية العامة للكتاب، وافتتح المبني الجديد علي الكورنيش عام 1978 ليضم الهيئتين معا: دار الكتب وهيئة الكتاب، وعندما تضخمت الهيئة تم تقسيمها لهيئتين، وهنا عادت لدار الكتب شخصيتها المستقلة، وفي ذلك التوقيت كاد المبني القديم لدار الكتب أن ينهار لكن تم تجديده وتطويره وتم افتتاحه عام 2007، لتضم المصاحف المذهبة والوثائق والتحف القيمة، ولتحتوي ما يقرب من 11 ألف دورية تقع في 160 مجلداً، وتضم مجموعة من اللوحات رسمت ما بين القرنين الخامس عشر والعشرين، إلي جانب 4 آلاف بردية تسجل تاريخ مصر منذ القرن الأول الهجري، و1500 نوتة موسيقية عربية وأجنبية، و40 ألف شريط كاسيت تضم نوادر التراث الغنائي المصري والتركي. شهد المؤتمر العديد من الموضوعات والمواقف، كان أبرزها ذاك الكتاب الذي عرضه الدكتور محمود الشيخ، أستاذ التاريخ بجامعة فلورنسا بإيطاليا، والذي قال: ذهبت إلي إيطاليا لدراسة التراث الأوروبي، ولكن التراث العربي لاحقني، فبدون أن أدري أو أريد، عثرت علي أعمال أبو القاسم عباس الزهراوي، في كلية الطب بجامعة مونبرييه، ثم عثرت علي الترجمة الإيطالية للمنصوري الرازي محفوظة في 8 مخطوطات بمكتبات إيطاليا وفلورنسا والبندقية وميلانو، ومنذ 12 عاماً وأنا دائب علي دراسة هذا النص، لعدم وجود نص محقق له في العربية. وتابع: في إحدي زياراتي للقاهرة، طلب مني مفتي الجمهورية الدكتور علي جمعة، أن أتقصي موضوع مصحف "بجانيني" الذي يقال أنه أول مصحف طبع بالعربية في البندقية عام 1735، بدأت ابحث في الموضوع واستطعت بعد دراسة طويلة أن أتحقق بأن هذا المصحف ما هو إلا خرافة، لم يطبع، والنسخة الموجودة في «دير الفرانسيس كان» بروما، مليئة بالأخطاء وأنه كان مجرد مشروع لم يكتمل ولم يصل لمرحلة الطباعة، ومن هذا المنطلق، أردت أن أحصر نسخ القرآن الموجودة في مكتبات مدينة فلورنسا لعمل حصر كامل علي المخطوطات ونسخ القرآن الموجودة في إيطاليا وإذا بي أجد نسخة من كتاب لياقوت المستعصمي، صاحب الخط المستعصمي، انتهي منها في العشر الأول من شوال سنة 694ه، نقبت، حتي وجدت كتاباً لصلاح الدين المنجد، ومن هنا بدأت حصر ما كتب ياقوت المستعصمي، وقد جئت اليوم لأترك الأمر للأساتذة المتخصصين، كي يكتشفوا حقيقة الخط المستعصمي بأنفسهم، فليتفضلوا المخطوط، و أرجو أن ندرس الرجل، ونحقق ما قدم. وتحدث الدكتور حسين نصار، قائلا: السبب المباشر لإنشاء دار الكتب في صورتها الحالية كان جمع المخطوطات الموزعة في الجوامع وحفظها في موضع واحد لصيانتها، وإذ حدث هذا بدأت الوظيفة الثانية التي تسعي إلي طبع إحدي المخطوطات النفيسة ونشرها علي القراء، ولما كان ما اطلع به شيخ العروبة أحمد ذكي باشا، قد أسماه التحقيق، فقد لقي هذا الاسم القبول من الجميع، ولما كانت محققاته أول ما احتضنته دار الكتب، كان لي الحق أن أعد منهجه في التحقيق المنهج الذي اتبعته دار الكتب فيما بعد فيما أصدرته ونشرته من كتب. وعن هذا المنهج يقول نصار: يضم المنهج مقدمة تتحدث عن تعريف بالكتاب وأهمية مضمونه ومزاياه، والترجمة لمؤلفه، والتعريف بالنسخ المخطوطة التي جمعها المحقق، وبيان قيمتها العلمية، والنص يحرر من الاعتماد علي مخطوطة وحيدة، ويضاهي بغاية الدقة والأمانة بين المخطوطات، ويورد كل ما قيل ويبين كيف تعامل المحقق مع ما وجده من زيادات في بعضها، ويبين كيف رمم ما وجده من خروم أو إسقاطات وحرصه علي ذكر كل هذا في الحواشي، مع تفسير غوامض النص، وضبط حروفه بالشكل الكفء، ومراجعة الأمهات. أما المحقق، الدكتور مصطفي نبيل عبد الخالق فقال: دار الكتب المصرية هي الأكثر تأثيرا في عمل المستشرقين، سواء أقاموا في مصر، أو زاروها، فقد ساعدت الجميع بمؤلفات عديدة، لو انقطع عن الباحث إمدادات الدار لانقطع أثره العلمي، والأمر لم يتقصر علي دارسي التاريخ، بل امتد للأطباء، ومن بينهم طبيب عيون ألماني شهير جاء إلي مصر، وحقق بنفسه كتاب حنين بن إسحاق، وقدم للكتاب بأشهر كتب الرمد عند العرب.