رغم إيماني المطلق بالليبرالية طريقا وحيدا للتقدم والانطلاق نحو آفاق المستقبل ورغم يقيني بأن النظام الرأسمالي الحر في ظل أجواء من المنافسة الكاملة والشفافية التامة هو خير وسيلة لرفاهية الشعوب، رغم كل ذلك فإنني أشعر بالقلق مما يدور في كواليس بعض الأنظمة الرأسمالية التي أستطيع أن أصفها بالمتوحشة بيد أن ما اقترفته تلك الأنظمة من ذنوب في حق البشرية لا توبة له علي الإطلاق. إنني أري في الأفق بوادر أزمات اقتصادية جديدة، البداية ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية علي مستوي العالم، إنهم يستخدمون القمح والذرة وغيرها من المحاصيل في استخراج الإيثانول ! غذاء الشعوب الفقيرة يستخدم كبدائل للطاقة في البلدان المتقدمة ! إن الأنظمة الرأسمالية المتوحشة ظلت تمارس كل أنواع الرذائل علي مرأي ومسمع من الجميع وفي وضح النهار، وكان الحمل السفاح نتيجة طبيعية، لكن أحدًا لم ينتبه ولم يلتفت، لكن في فترة المخاض شعر البعض بأن هناك أوجاعاً مكتومة وتأوهات تخرج علي استحياء بين الحين والآخر، وفي جنح الظلام تمت لحظة الميلاد المأساوي لقد استيقظ العالم مفزوعا علي هذه الحمم البركانية التي ثارت فجأة آتية علي الأخضر واليابس وفي مشهد جنائزي حزين وقف العالم مشيعا النظام الرأسمالي ذي النكهة الأمريكية علي أنغام الاشتراكية القديمة التي ما فتأت في الظهور من جديد علي السيمفونيات الماركسية العتيقة. لقد تسببت النظريات التي تؤمن بوحدانية السوق وبأن النظام الرأسمالي لا شريك له في ملكه.. لقد أصيبت الرأسمالية في مقتل وأصبح العالم علي بعد خطوات قليلة من حالة الوفاة الإكلينيكية المسماة بالركود الاقتصادي، بيد أن العالم قد يستيقظ علي مسلسل جديد للانهيار الكبير.. آلاف الشركات.. ملايين المستثمرين .. عشرات الدول .. الجميع في حالة ترقب وقلق. الحقيقة أنه حتي هذه اللحظة أستطيع أن أؤكد أن الشيء الوحيد المؤكد لدي أنه لا شيء مؤكد علي الإطلاق. فحتي هذه اللحظة لا يستطيع أحد أن يدعي أنه وضع يده علي الأسباب الحقيقية لسلسلة الأزمات الاقتصادية التي يتعرض لها العالم .. إن أحدا لايعلم علي وجه الدقة أين يتجه الإعصار المدمر حين يثور من جديد ؟ وأحدا لا يعرف متي وكيف يوقف هذا الإعصار لكن الشيء المؤكد أنه لا شيء مؤكد علي الإطلاق .. في هذا الجو الضبابي، لا يستطيع أحد من المستثمرين أن يري أبعد من موضع قدميه، كل مستثمر يضع يدا علي قلبه واليد الأخري علي ما تبقي في جيبه، الأسواق أصيبت بالشل التام، البورصات العالمية أصبحت من مخلفات الإعصار، البنوك وشركات التأمين بدأت في نصب سرادق العزاء والقهوة السادة جاهزة للمودعين والمستثمرين. بيد أن التحليلات الاقتصادية والمالية وتضاربها لأزمات خلفت وراءها مزيدا من الغموض والضبابية فالاشتراكيون الجدد يحلمون بعودة مجد الآباء والأجداد، والرأسماليون يقسمون بأغلظ الأيمان بأن دولتهم قائمة ولن يمسها سوء مهما كانت الانهيارات الحالية والوضع الحالي ! إن التاريخ الاقتصادي للرأسمالية مليء بالكوارث والأزمات ففي عام 1929 حدث الزلزال العالمي المسمي بالكساد العظيم الذي استمر قرابة العامين .. بيد أن الرأسمالية كانت تشهد أزمات عديدة في الفترة من عام 1854 حتي عام 1919 كانت الأزمات تحدث كل 49 شهرا وتستمر 22 شهرا، أما خلال العقدين الأخيرين فقد بدأت الأزمات تحدث كل مائة شهر وتستمر لمدة ثمانية أشهر. فالأزمات ليست جديدة وليست غير مسبوقة لكنها جزء من سلسلة أزمات تاريخية للرأسمالية، هي بالمنطق ليست نهاية للرأسمالية لكنها وفيما يبدو نهاية لسيطرة الولاياتالمتحدةالأمريكية علي مقاليد الاقتصادات العالمية، إننا نري في الأفق غبارا يبدأ عادة بارتفاع أسعار السلع الاستراتيجية ونتوقع أن تتبعه أزمة مالية ويتبعها أزمة اقتصادية والسؤال: هل نبدأ في دراسة الموقف ووضع التصورات والحلول علي افتراض أسوأ السيناريوهات أم ننتظر حتي وقوع الكارثة ثم نبدأ في التفكير ؟