جمعتني مع الأنبا بيشوي لقاءات قليلة العدد من خلالها تأكد لي صحة ما يقال من إنه شخص لا يطيق النقد ولا يحتمل الاختلاف معه في رأي أو فكرة، ولديه إحساس متضخم بالذات، ولديه اقتناع بأنه حامي الكنيسة والوصي علي الجماعة المسيحية في مصر. وأتابع باستمرار «افتكاسات» سيادته وتصريحاته وحواراته، وكنت - ومعي الكثيرون من قادة الكنيسة الإنجيلية - نلتزم الصمت إزاء إساءاته المتكررة للكنيسة ولم نكن نعطي كلامه اهتماما، فقط نصلي من أجله. ولكن ما دفعني للرد علي «افتكاساته» هذه المرة هو حواره المنشور بجريدة المصري اليوم الأربعاء الموافق 15/9/2010 الذي استشعرت فيه خطرا يهدد كيان الكنيسة المصرية بل يهدد سلامة الوطن بأكمله. ولي بعض الملاحظات علي هذا الحوار: القضية الأولي: قضية الغزو الإنجيلي: لقد أصبحت الكنيسة الإنجيلية قضية تشغل مساحة كبيرة من اهتمام وتفكير الأنبا بيشوي ويشعر بالتهديد الدائم من جهتها، مع أن الكنيسة الأرثوذكسية في شعبها وإمكانياتها تفوق الكنيسة الإنجيلية أضعاف المرات (وهذا في مصر فالبروتستانت في العالم يتجاوز عددهم 700 مليون)، ولكن لست أعلم سبب هذا الفزع من الإنجيليين، وإن كنت أجد له بعض المبررات منها أن الكنيسة الإنجيلية بفكرها المستنير وانفتاحها علي الآخرين وحرية التعبير والتفكير، وبالديمقراطية الحقة التي تمارسها هي موضوع إعجاب وتقدير من الذين لهم علاقة من الكنيسة الإنجيلية علي اختلاف هوياتهم الدينية والطائفية. وقد اعتاد الأنبا بيشوي منذ عدة سنوات وبين الحين والآخر أن يقذف بتصريح يهاجم فيه الكنيسة الإنجيلية ويسيء إليها، مثلما أدعي منذ فترة قصيرة أن الإنجيليين لن يدخلوا الملكوت وكأن الملكوت حكر علي الأرثوذكس فقط دون خلق الله، وهو يتحدث وكأنه حارس للملكوت وعارف بأسراره وحامل مفاتيحه، وهذا وهم كبير. ثم جاءت «افتكاسته» الأخيرة المنشورة في الحوار المشار إليه قائلا: «بالفعل هذا التغلغل موجود (التغلغل البروتستاني للكنيسة الأرثوذكسية) مستمر بتمويل من أمريكا.. وتتم هذه الاختراقات من خلال مؤتمرات للشباب بأسعار رمزية يأخذونهم لقضاء يوم كامل في الرياضة واللعب والسباحة في حمامات مشتركة للشابات والشباب ثم يقدمون لهم عظة بروتستانية في آخر اليوم». وأقل ما يقال علي هذه التصريحات غير المسئولة أنها أوهام وخيالات الأنبا بيشوي ومحض افتراءات وأكاذيب، وإن كان هذا الكلام يليق بسيادته إلا أنه لا يليق بالشباب الأرثوذكس وكأنه قطيع يساق بلا فهم أو عقل، ويمكن خداعه أو تغيير معتقداته بهذه السذاجة، وأنه شباب مكبوت يندفع وراء شهواته ويترك «الأنشطة البريئة» علي حد تعبيره الموجودة في الكنيسة الأرثوذكسية ليذهب إلي أنشطة غير بريئة، وهذا الكلام أعتبره إساءة إلي الشباب الأرثوذكسي العاقل وسباً وقذفاً للكنيسة الانجيلية. أما قصة الأموال الأمريكية فهو يدرك تمام الإدراك أننا لا نتلقي أموالاً من أحد ويعرف من المتلقي الفعلي لهذه الأموال، ولكن الأنبا بيشوي مثله مثل بعض المصريين البسطاء التفكير الذين يعتقدون في نظرية المؤامرة، وهو يغازلهم بشعاراته. القضية الثانية: لا اجتهاد مع النص: قال الأنبا بيشوي في حواره: «في الإسلام تقولون لا اجتهاد مع النص وعندنا الشيء نفسه»، وأنا أسأل سيادته من قال إنه لا اجتهاد مع النص في المسيحية؟ يبدو أن سيادته يحتاج إلي دراسة علم التفسير.. ووقتها سيدرك أن النص مقدس أما تفسير النص فهو غير مقدس، وأن المسيحية تدعو إلي اعمال العقل في النص، وأن النصوص المقدسة تحتاج في دراستها إلي العودة إلي الأصول اللغوية والخلفيات التاريخية والثقافية والاجتماعية، ودراسة السياق الذي قيل فيه النص، كل هذه الأمور هي التي تجعل فهم النصوص المقدسة صحيحا وصالحة في تطبيقها. أما القول «لا اجتهاد مع النص» فلا مكان له في الفكر المسيحي، وإن كان الأنبا بيشوي يقول هذا فهو له عذره، لأنه يتعامل مع شعبة الأرثوذكس بهذا المنطق «لا تجادل ولا تناقش». القضية الثالثة: الأقباط أصل البلد قال سيادته بالنص: «الأقباط أصل البلد ونحن نتعامل بمحبة مع ضيوف حلوا علينا ونزلوا في بلدنا واعتبرناهم أخواتنا». هذا اقتناع البسطاء من المسيحيين، وقول تنقصه الحكمة والحنكة وفيه مغالطة تاريخية، لأنه وإن كانت مصر قبل ألفي عام كانت مسيحية إلا أنها تحولت عبر السنين إلا الإسلام ولم يكن هذا التحول بفعل الوافدين إليها من غير المصريين، بل تحولت بتحول الأغلبية المسيحية إلي الإسلام لأسباب كثيرة ومختلفة. كما أننا لا نستطيع أن نردد هذا القول الساذج مثلما لا يستطيع الهنود الحمر أن يرددوا اليوم أنهم أصل أمريكا وأن الأمريكيين الحاليين وافدون عليها وغرباء وضيوف فيها. كما أن هذا القول فيه إحساس بالتعالي والتفوق ويطيح بمبدأ المواطنة. القضية الرابعة: دعاوي الاستشهاد: قال سيادته: «نحن كمسيحيين نصل إلي حد الاستشهاد إذا أراد أحد أن يمس رسالتنا المسيحية، وإذا قالوا لي إن المسلمين سيرعون شعبي بالكنيسة فسأقول اقتلوني أو ضعوني في السجن حتي تصلوا لهذا الهدف». لست أعلم ما الداعي إلي اقحام كلمة «استشهاد» في هذا الحوار لم يرغم سيادته أن ينكر دينه أو إيمانه وهي الحالة الوحيدة في المسيحية التي تتطلب الاستشهاد، أما غير ذلك مهما كانت الإساءات لا يستدعي الاستشهاد. فإن أحدا لم يستشهد عبر التاريخ في المسيحية بسبب أن أحدا حرق الكتاب المقدس مثلا، أو آخر شكك في صحة الإيمان المسيحي، أو ثالث أساء إلي شخصية المسيح المباركة، ولكن جميع الذين استشهدوا عبر التاريخ المسيحي استشهدوا لأنهم أرغموا علي انكار إيمانهم المسيحي وخيروا بين أن يتركوا المسيحية أو أن يقتلوا فاختاروا الاستشهاد، أما التلويح بالاستشهاد فلأن أحداً أساء إلي المسيحية فهذا ليس منطق المسيحية ولا فكر المسيح نفسه الذي شتم وأسيء إليه وقالوا عليه كل كلمة شريرة، وبالرغم من هذا لم يستشهد إنما قبل الموت عندما أرداوا أن يجعلوه ينكر دعوته ويتخلي عنها. أخيرا: يمكن أن نفهم شخصية الأنبا بيشوي في إطار ما حدث للمجتمع المصري وللشخصية المصرية من تحول وتغيير من حيث تقلص مساحة التسامح - رفض الآخر - زيادة حدة التعصب الديني - واعتقاد فرد أو جماعة امتلاكهم للحقيقة المطلقة دون غيرهم - الاعتقاد في نظرية المؤامرة، وكان لابد للقيادات الدينية كنسية وغير كنسية أن تتصدي لهذا التحول، إلا أننا خاب رجاؤنا في الكثير منهم، فلك الله يا مصر.