قضيت العيد في بلاد مختلفة، وفي مدن متعددة.. قضيته في الحضر وجربته في الريف.. وقضيته في بلاد تشبهنا في اللغة والدم وتختلف عنا في الطقوس المرتبطة بالعيد.. كما قضيته في بلاد لا تكاد تفقه لهم قولاً، ولا تفهم لهم إشارة.. قضيت العيد بكل لغات الدنيا وبمعظم مدن العالم.. غير أن أسعد الأعياد هي تلك التي قضيتها طفلاً، وجربتها شاباً، يوم كان العيد يتلخص في ابتسامة أمي التي تضيف إلي العيد أعياداً متجددة، ويتلخص كذلك في "عيدية" أبي مقرونة بحضنه الدافيء وتربيتته علي ظهري، ومسحته الرقيقة علي كتفي.. أشياء قد لا أكون قد التفت إلي أهميتها حينذاك، ولكنها تمثل العيد كله عندما أتذكرها حالياً.. ولا أدري هل يشعر الأطفال حالياً بفرحة العيد كما كنا نشعر بها أم لا؟ ولا أدري كذلك هل سيلتفتون إلي دلالة بعض الأشياء البسيطة في طفولتهم ويستعيدونها عندما يكبرون مثلما نفعل حالياً أم لا؟ غير أن المؤكد أنه لا عيد للكبار إلا بقدر إدخالهم السرور علي صغارهم، وإلا بخلق جو العيد لدي أسرهم.. الكبار لا يحتفلون بالعيد ولكنهم هم الذين يخلقون العيد للآخرين.. ولذلك عندما يأتي العيد لا أتذكر منه سوي ما صنعه والدي لكي يجعلاني وإخوتي أشعر بفرحته، أو يجعلاني أشعر بهلته وبطلته.. وهو ما يدفعني إلي إدخال السرور علي أسرتي وعلي كل من استطيع إسعاده في هذا اليوم.. بطبيعة الحال، لقد كانت الدنيا غير الدنيا، وكانت الحياة غير الحياة .. كنا نبدأ في انتظار العيد منذ أن ينتصف شهر رمضان.. نبحث عن "هدوم" العيد التي كانت في الغالب تفصيل.. نضع جدولاً للزيارات العائلية، إذ لم يكن هناك موبايلات يمكن إرسال رسائل التهنئة لكل المعارف والأقارب بأمر واحد.. نلبس هدوم العيد وننام بها في ليلة العيد.. ونستيقظ مبكراً في انتظار الفرحة التي تأتي مبكراً، ولا تأتي لمن يستيقظ متأخراً.. يأتي العيد هذا العام، كما يأتي كل عام عندما نكبر، خالياً من كل ما يسعد الكبار، اللهم إلا قدرتهم علي إسعاد الآخرين، وخالياً كذلك من ابتسامة أمي، ومن حضن أبي، اللهم إلا من خلال ذكريات تتدفق، ومشاهد بصرية لا تفارق الخيال.. ورحم أمير الشعراء شوقي عندما قال "فإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ.. هذان في الدنيا هما الرحماء".. ومعذرة للمتنبي عندما قال: عيدٌ بأية حال عدت يا عيد! كل عام وأنتم بخير..