أربعة أيام قضيتها في دمشق الفيحاء، أغلق الحر المفاجئ فيها كل اتساع ممكن، ولم يفتح أبواب الروح إلا المؤتمر الذي دعيت إليه، وموضوعه عن الاتصال بين المشرق العربي ومغربه، والباحثون المحترمون من الوطن العربي، ورعاية وزير الثقافة الكاتب الدكتور رياض نعسان أغا. عدت من المؤتمر أحمل كتابين. الأول عن الباحث المبدع الكبير محمد قجّة، اشترك فيه عدد رائع من الباحثين، من أقطار كثيرة، والثاني عنوانه "من أريج الشام" لوزير الثقافة الذي شغل العديد من المناصب الثقافية والفنية والتدريس للأدب العربي في الجامعة قبل الوزارة، وله كتب عديدة أحدثها بين "السياسة والفنون" الذي صدر في القاهرة مؤخرا عن دار رؤية بالقاهرة. والاستاذ محمد قجّة المولود عام 1939، ينتمي إلي أسرة عربية عريقة في حلب الشهباء، وهو شاعر وباحث في الأدب والتاريخ والتراث، له تأثيره الواضح في الثقافة العربية، سواء بما تولاه من مناصب ثقافية رفيعة أو بما ألفه، وآخر ما يتولاه الآن من مناصب رئاسة السجل الوطني للتراث الثقافي في سوريا، ورئاسة جمعية العاديات السورية، ورئاسة تحرير مجلة العاديات السورية، ومجلة التراث التي تصدرها وزارة الثقافة، أما كتبه فهي كثيرة تزيد علي الثلاثين كتابا، بعضها عن شخصيات تاريخية عربية خالدة ،مثل شجرة الدر وطارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبي وعبد الرحمن الناصر، وبعضها عن معارك خالدة مثل معركة المنصورة، أو إجنادين، أو معارك خالد بن الوليد في العراق، أو معارك عقبة بن نافع في الأندلس وغيرها، كما أنتج عدة اطالس تاريخية كبيرة، مثل أطلس تاريخ الحضارات القديمة، وأطلس تاريخ الحضارة الاسلامية، كما حقق ديوان الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، أما عن حلب نفسها فهو حارسها الفكري الكبير ،كتب عنها مسرحية وكتبا تاريخية عنها في مطلع القرن العشرين وعن اثارها وحياتها الاقتصادية، في الحقيقة الاستاذ محمد قجّة، من ذلك النوع الذي يجمع بين الموسوعية والتخصص من الكتّاب، الذي قل نظيره، وهو معني دائما بروح المكان والعصور والناس، تاريخ الاستاذ قجّة مع الثقافة مشهود له عبر أكثر من جيل، ومن حسن حظي أني قابلته أول مرة صدفة منذ عام ،حين كنت في حلب وكانت معي الأديبة الشابة صاحبة الرواية الجميلة "عين الهر" والاستاذة المرموقة في جامعة حلب الدكتورة شهلا العجيلي، وعدت من اللقاء معه مأسورا من دماثته وعلمه وثقافته، ومن حسن حظي أني قابلته مرة ثانية في دمشق هذه المرة، ورغم الحر كانت سعادتي بلقائه واضحة، وعدت بهذا الكتاب الذي يشمل مقالات جميلة عن جهوده، وعددا كبيرا من رسائل الادباء والمفكرين إليه عبر الاجيال، وصوراً نادرة ومعاصرة مع السياسيين والأدباء والمفكرين من كل الدنيا وثبت بأعماله المنشوره وغير المنشوره ومساهماته الثقافية عبر الزمان ويالها من رحلة. لم يكن ذلك غريبا علي باحث ومفكر وهب حياته للثقافة العربية مثل الاستاذ الكبير محمد قجّة، الذي هو الآن في نظر الجميع أحد معالم مدينة حلب كما هو أحد معالم ثقافتنا العربية، لا يزال في هذه الحياة من يعيد الثقة بها، هذا هو انطباعي الراسخ من لقاء مفكر وأديب وباحث أنفق عمره ليمسك بلحظات العظمة في أمتنا العربية، تحية لهذا العالم هي أقل ما أقدمه إليه. الكتاب الثاني "من اريج الشام" ليس كتابا عاديا، لكنه أشبه بالمتحف المصور عن آثار الشام الباقية، يضم عشرات الصور عنها ،وعلاقة الكاتب بها، كيف رآها أول مرة، وكيف كانت في التاريخ، من الذي اكتشفها من علماء الآثار اذا كانت مكتشفة حديثا، أو ما جري لها ومرّ عليها عبر التاريخ من بشر وحكام وعلماء وأئمة، ويبدو لي أنه لم يترك أثرا مهما من الآثار إلا ووقف عنده موقف المتبتل العاشق، بلغة معبقة بعطر الماضي، مما جعل العنوان مناسبا للغة الكتابة وبراعة الصور وألوانها، قلعة دمشق، والتكية السليمانية، وقصر العظم ،وضريح الفارابي، وخان أسعد باشا، وجامع الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي ، ودير مارموسي الحبشي، وتدمر زمردة الصحراء ،وقلعة صلاح الدين، وحلب وقلعتها الشهيرة، وعين دارة، وماري عاصمة الفرات، وغيرها وغيرها يتحدث فيها عن علاقته الروحية والثقافية بالمكان ومكتشفيه الذين عاصرهم مثل جورجيو بولاتشي الأمريكي وزوجته مارلين كيلي الباحثة ايضا مكتشفا مملكة أوركيش في تل موزان، وباولو ماتييه الذي اكتشف مدينة إيبلا قرب أدلب، وهكذا. والكتاب وهو سباحة عميقة في المكان والزمان والأحداث.. أيضا ذكريات روحية للكاتب المولع بالآثار منذ طفولته المدرسية، فكثير من المواقع زارها في صباه وشبابه، يقول عن "قلعة حارم" كيف زار المدينة وهو دون العاشرة، ويمشي معك في وصف المدينة التاريخية، وكيف كان الطريق عامرا بآلاف من أشجار الزيتون وكيف وقف والده يحدثه بالقصص المثيرة عن مقاومة الاحتلال الفرنسي وكيف ارتبطت المنطقة في ذاكرته باسم الزعيم الوطني الكبير "إبراهيم هنانو" رحمه الله الذي ولد في" كفر تخاريم "قرب حارم ، وقاد أول ثورة سورية ضد الاحتلال الفرنس، ويتحدث عن القلعة التي تشكل عنده دون مبالغة مسيرة الصراع بين الشرق والغرب ، ثم بين الإسلام وأعدائه علي مر العصور، وبصفة خاصة الصليبيين والمغول، وكيف تأمل اسم حارم السرياني بينما هو لفظ كنعاني عربي واضح المعني، من الحرم والحرمات، فالمدينة كما يقول ياقوت الحموي عنها في معجم البلدان، حرم لمن فيها، وهكذا يمشي السرد المحب للبلاد، ومن الطبيعي أن يكون للجولان حظ من الصور والتاريخ والذكريات، وهو في ولعه الشخصي يزيد من الحضور التاريخي والمعماري للمكان فأنت مع الكتاب لست مع التاريخ والذكريات فقط، ولكن مع العمارة عبر التاريخ، وكيف توحي العمارة دائما بقيم المجتمع ورؤاه الفكرية وسحر الزخرفة والمزركشات والمنمنمات التي اشتهرت بها الشام، وكيف تتألق الهوية الشامية في القصور وغيرها، مثل قصر العظم الذي بناه أسعد باشا العظم والي دمشق في منتصف القرن الثامن عشر، قريبا من الجامع الاموي ليكون إحدي مآثر دمشق الخالدة.لقد أوقف الحر المفاجئ الغريب علي الشام، وعلي العالم كله، حركتي التي تعودت عليها، حين أزور دمشق ،لكن هذين الكتابين عوضاني عن هذا التوقف، فرحت أطوف بما احب أن أطوف به كل مرة، وبما لم أزره أو أراه من قبل، والحقيقة أن هذا الكتاب ليس مجرد كتاب تذكاري لكنه كتاب ادبي وفني وتاريخي بمعني الكلمة تنسكب منه متعة المعرفة مع حكاياته وصوره الفاتنة.