أكتب هذه السطور في أول أيام رمضان لذا أرجو أن تغفروا لي أي تخاريف صيام! رغم أني دائم التخريف قبل رمضان وبعده. ضمن فرائض الصيام الامتناع عن الطعام والشراب يوميا لنصف يوم أو أكثر قليلا ويخصم من اليوم حوالي سبع ساعات يقضيها المرء نائما. وهو ما يعني اختصار وجبة من ثلاث وجبات يوميه. ورغم ذلك لست أدعي أن هذا سهل. يتزاحم الناس قبل رمضان بأيام قليلة لشراء السكر والزيت والسمن واللحوم والياميش والكنافة والقطايف وفوانيس رمضان. ليس خوفا من نفادها ولكن كي لا يتحركوا قبل المدفع أو بعده. فيوفروا جهدهم ويناموا ثم يخرجوا للسهر سواء كانت السهرة دينية أو ترويحية. الواقع أن الناس عندنا تأكل في شهر رمضان أكثر من أي شهر. فالصيام لا يمنع الأكل والشرب بين الوجبتين أي عدد آخر من الوجبات. ومعظمهم يفعل هذا. وباستثناء الزبادي والفول في السحور يكثرون من البروتين الحيواني بأنواعه وكل أصناف الحلوي. فينتهي الشهر وقد حصلوا علي عدة كيلوجرامات زيادة في أوزانهم. وزيادة في أرقام الكولسترول والسكر والضغط وضمور العضلات لقلة الحركة الخ. وتزيد ساعات النوم إلي تسع ساعات إن لم يكن أكثر. وتقل مستويات العمل لأدني حد. رغم أنها متدنية قبل رمضان وبعده، خاصة في الأعمال الحكومية. فالناس توفر جهودها نظرًا لضعف طاقتهم في أوقات العمل رغم سماعهم آلاف المرات أن العمل عبادة. أي أن الفائدة المرجوة من الصيام عن الطعام والشراب تكاد تنعدم. بل وقد تؤدي إلي عكس المرجو منها!. يعتنق المحققون في الجرائم العبارة الشهيرة (فتش عن المرأة) باعتبارها سببا لمعظم الجرائم. في حالتنا يمكن أن نقول (فتش عن التعليم). فهو يشكل أغلب ما يعتنقه المرء من أفكار وسلوك. ورغم التعليم المجاني المزعوم في كل مراحله فالبعض لا يكمله، ورغم أن التعليم الابتدائي إجباري قانونا لكن الكثير من الآباء يساعدون أطفالهم علي الهروب منه. باختصار ليس صحيحا أن كل الناس عندنا تسعي للتعليم ولو مجانا. وكما يغش التلاميذ في الامتحان أو يشترون أسئلته إذا استطاعوا إليه سبيلا، فنحن نغش في صومنا.نريد أن نصوم ليعلم الجميع أننا نصوم، بشرط ألا نجوع أو نعطش أو نتعب. أي ألا نعمل!. وهكذا نحصل علي شهادة اللهم إني صائم بأقل جهد ممكن. الغش في الامتحان يعني أننا ننشد الشهادة لا التعليم نفسه. بينما التعليم هدفه ان نقدر علي العمل أولا وينتج عن هذا أن نحصل علي وظائف علي قدر إجادتنا للعمل. لكننا ننتظر من الشهادة أن تضمن لنا وظيفة. خاصة إذا كان لنا واسطة أو قدرة علي الرشوة. بل ننتظر الوظيفة حتي ولو في جهة غير حكومية قد تضيق بها دائرة الرشوة والواسطة. منذ أيام سمعت هذه النكتة التي قد تكون مثلا علي ذلك. شاب حاصل علي الابتدائية عمل بوظيفة مساعد مكتب في شركة خاصة. طلب منه رئيسه أن يتصل بمحل للوجبات السريعة فسأل رئيسه كيف يحصل علي رقم تليفونها؟! أخبره أن يتصل بالدليل. فسأله عن رقم الدليل!. أعطاه رقمه فاتصل به وأعطته الموظفة الرقم بعد ثوان. عاد الشاب الذي يعيش عصر الكمبيوتر والفضائيات، ليسأل رئيسه بدهشة كيف تحفظ موظفة الدليل كل هذه الآلاف من أرقام التليفونات؟!. الحقيقة أنها ليست نكتة بل واقعة حدثت قبل رمضان مباشرة وكنت ساعتها أقرأ خبرا منشورا عن محاولة في أمريكا لاختراع انسان آلي بغرض محدد هو كشف مكان دفن الملك والملكة في الهرم الأكبر الذي بناه قدماء المصريين منذ أكثر من أربعة آلاف سنه واستخدم علماء العالم عشرات الطرق والآجهزة لكشف اسراره ولم يصلوا لشيء حتي هذه اللحظة. أكثر من كاتب صحفي أو صحفي كاتب، يتحسر لأن رمضان هذا العام يخلو من المسلسلات الدينية. وينحي باللائمة علي المسئولين والفنانين. لم يخطر ببال الكاتب أن السبب ببساطة أنه لا يوجد مشتر لهذه المسلسلات. ولو كان المشاهدون يطلبونها لكثرت الإعلانات التي تصاحبها وتنافست كل القنوات علي شرائها. بالطبع لا يمكن تصور أن كل الناس تخلوا عن إيمانهم ودينهم عدا هذا الكاتب أو ذاك. لكن ربما شبع الناس من رؤية المسلسلات الدينية علي مدي نصف قرن وحفظوا سيرة أبطالها الذين يشار إليهم بسيدنا فلان ولم يكن أحد يناديهم بهذا اللقب أيام مجدهم. لكن الناس مازالوا علي إيمانهم بدليل صيامهم لكن الإفطار بعد الجوع يأخذ وقتا أكبر في الهضم يغفون خلاله ويصحون أمام الشاشة وهو ما يناسب أعمالاً خفيفة كوميدية أو ميلودرامية ولا يفوتهم شيء مهم إذا أخذتهم سنة نوم لدقائق أو ساعات!.هذا غير أنهم عائدون من الجامع ذاهبون إليه في صلاة العشاء قائمون له في صلاة الفجر. يستمعون في الراديو إلي القرآن والأحاديث وآلاف الأٌقوال حول فوائد الصيام رغم أنهم علي صيام منذ كانوا أطفالا. ثم إن برامج الفتاوي والأحاديث الدينية في التليفزيون والفضائيات مطلوبة بشدة ولذلك تجلب إعلانات وتليفونات أكثر مع رخصة تكلفتها بالقياس إلي المسلسلات، ويعود الربح فيها علي المشايخ المؤمنين لا الممثلين المشكوك في أمرهم! والناس مازالت مؤمنة بدليل رفضهم توفير زينة رمضان لترشيد استخدام الكهرباء مع أن الفوانيس والأنوار ليست فريضة أو سنة.علي أن أهم ميزة يحصل عليها الصائم من حصوله علي شهادة (اللهم إني صائم) هي أن يتحول بدوره إلي مفتي. ينصح الفاطرين لأي سبب بالصيام. ونصيحته خالصة لوجه الله تعالي لا يتقاضي عنها أجرا كنجوم الفضائيات!. كل عام وأنتم بخير وعلي ما نحن عليه لو كان هذا هو الخير!