أخذ صديقي يردد: «أنت محب للشكوي».. قرأت لك - من باب المجاملة - كثيراً.. لا يعجبك شيء.. خاصة سلوك الناس من ذلك قولك إنه وفقاً لإحصائيات موثوق بها: الموظف المصري يعمل 27 دقيقة فقط يومياً.. والمدة نفسها (حوالي نصف الساعة) كانت هي التي يعطيها عامل القطاع العام سابقاً في مجال الإنتاج الفعلي. وأكمل: «لكنك مخطئ.. تماماً.. وأنا شخصياً أعرف من يعمل بكل جد، يخطط ويرسم ويدقق ثم ينفذ، في سبيل إنتاج يستمتع به ويفيد به ذويه عملاً بمبدأ الكل في واحد، وما استحق أن يعيش من عاش لنفسه فقط». ويقول المهندس جورج وهبة: يفترض أن نعطي لكل ذي حق حقه، كما أن لكل مجتهد نصيباً، فالشخص الذي أعرفه خفيف الحركة، سريع البديهة، مبتكر في خطواته، يجيد حساب كل شيء مقدماً يتخذ ما يكفي من احتياطات واجبة، كي يبدأ ممارسة مهام عمله. ومن ثم فهو يعتبر نموذجاً لمواطن يقدس عمله، ينجح دوماً في إثراء ذخيرة خبرة تدفعه للأمام أكثر ولأعلي أكثر وأكثر، ثم إنه ذو ثقافة اجتماعية موسوعية فهو يعرف الكثير عن الجيران: طبيعة أعمالهم، مواعيد خروجهم ودخولهم، مدي الثراء الذي يتمتعون به، بل ربما أنواع الملابس وأصناف الأجهزة المعمرة لديهم، ذلك أن الشخص المنوه عنه، «حرامي» (عذراً)!! اضحكني كلام الصديق جورج.. حيث كان يتحدث بجدية مؤكداً أن هناك الكثيرين ممن يعملون بكل إخلاص وتفان في أداء مهامهم الوظيفية، أياً كان نوع تلك المهام. ذكرني ذلك بجوار جري بين مذيعة ولص محترف ضمن برنامج تليفزيوني منذ سنوات، سألته المذيعة: «عند خروجك صباحاً ماذا تقول؟» رد اللص: «وأنا طالع الشغل الصبح أقول : «استرها معانا دنيا وآخره يارب»، وكمان يارب ارزقني برزق عيالي» لاحظ هنا سيادتك أن المحروس يقول: طالع الشغل باعتبار أن السرقة مهنة وعمل ووظيفة ومركز اجتماعي يدعو لكل احترام ثم إنه متدين يطلب الستر في الشغل وبعد الحصول علي استمارة 7 ، كما أنه أب حنون يعطف علي أولاده داعياً الله بتوفير الرزق لهم، بغض النظر عن الوسيلة، فالمهم - كما قلنا - الأخلاق ورضا الوالدين، وسألت المذيعة «لما بترجع آخر النهار بمبلغ كويس بتعمل بيه ايه؟» رد عنايته: «آكل لقمة حلوة، وهدوم حلوة أنا والعيال.. نستمتع بالعيشة يعني»!! وفي البرنامج بدا لي الرجل منطقياً في ردوده، واقعياً في تفكيره، في حالة مصالحة مع النفس، قانعاً بدوره في الحياة كمواطن يكسب، ويؤدي ما عليه من واجبات تجاه الفاميليا تبعه. يستطرد الأخ جورج: لابد لك أن تقدر الفكر، وتزن المجهود الذهني الذي يبذله اللص المذكور قبل وأثناء الإنجاز، مع قياس درجة المخاطر التي يتوقعها والمفاجآت التي قد لا ينتظرها، ثم الجرأة اللازمة أثناء التنفيذ بعد المراقبة الدقيقة، وبعد ذلك اخفاء المسروقات أو التصرف فيها، ومع التعامل ضمن جوقة من زملاء «مهنة» يتبادلون المهام أحياناً أو الزبون بطريقة خلو الرجل.. أو بيع الضحية، مع احترام التخصص وتقدير الأقدمية عبر نظام هرمي يذكرك بالأجداد الفراعنة مع اختلاف المهام والظروف ومراعاة فروق التوقيت، ومع توفير الخبرة وهي لا تقدر بمال (تماماً مثل معرفة الرجال). وفي الحياة عموماً «نلاقي» الكثير.. عجائب دون طرائف، ولصوص غير ظرفاء، لكن تظل في الخلفية صورة اللص أو النصاب الذكي أو اللطيف، وربما كان الأخ أرسين لوبين وصاحبه موريس لبلان خير دليل. في الدنيا خصوصاً نعاني من لص يجعلك تحول باب الشقة إلي معرض «ترابيس» من الداخل ومجموعة أقفال من الخارج، مع استخدام أجهزة إنذار الكترونية أو في أقل القليل تحذير البواب من طلعة اللص، غير البهية، ومع الخوف طوال مدة البقاء خارج الشقة، ومراجعة المحتويات عند العودة، وكذلك مع التأكد من أبواب وشنطة السيارة، بل وشنطة اليد أيضاً. ولا تحدثني هنا متسائلاً: ماذا لو استخدم اللص مهارته وبدنه في إنجاز عمل صالح حلال مفيد وموجب، خاصة ومن يسرق شقة قد يشجع غيره علي سرقة وقت العمل، أو راحة الجار، أو ضرائب الدولة، ينطبق ذلك علي العامل والمدرس والطبيب وهلم عملاً.. فالسرقة هي السرقة علي أي حال.. من شقة أو ملعب كرة ، والنصب هو النصب في المبدأ والرأي أو التعامل والتعارف. ختم بدفتر في شركة حكومية يطلق عليه «دفتر تسحب» (اسمه كده) يدون فيه موظف السيركي ساعة هروب الموظف أو تهربه (بمعني أنه ينسحب خارجاً دون أن يشعر به أحد)، والدفتر معروف ومعترف به ورسمي.. «تسَّحب»!! ياه .. وبعد ذلك تريدون دخول الجنة؟ أخيراً.. انظر حولك كم عدد المنسحبين، ونسبة الزيادة في أعداد السادة اللصوص؟ من ينتج إذن؟! ثم.. عندك حق يا عم جورج: هناك من يعمل جاهداً بكل إخلاص.. أياً كان المجال والاتجاه والهدف والمحصلة ولا مجال لمزيد من الشكوي فعلاً.