متي تعود السفينة التركية الأسيرة في إسرائيل؟ تراجعت تركيا عن كل شيء.. وذهبت دماء شهدائها في مياه المتوسط بلا ثمن.. إلا إذا كانت التصريحات الساخنة - التي تبتلع فيما بعد - هي هذا الثمن الأخير الذي قبلت به تركيا.. لكي يمر الموقف.. لا اعتذار.. ولا تحقيق.. ولا علاقات انقطعت.. الأمور كما هي فيما بين إسرائيل وتركيا.. وعلي المتعاطفين العرب مع العثمانية الجديدة الانتباه. بعد شهر، من مقتل تسعة أتراك، في المذبحة التي أريقت فيها الكرامة العثمانية، التقي أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية التركي، مع بنيامين بن إليعازر، وزير التجارة والبني التحتية الإسرائيلي، في بروكسل، سراً، ومن ثم تم الاعتراف بانعقاد اللقاء بعد أن افتضح أمره.. وأدهشتنا أنقرة بأنها بعد كل هذا الصخب تقبل أن يقابل وزير خارجيتها وزيراً غير مختص في إسرائيل.. لكي تناقش موقف العلاقات مع تل أبيب. لقد صفعت تركيا نفسها بيدها.. مرة لأنها قبلت هذا الشكل المدهش من اللقاءات.. ومرة لأنها وافقت علي أن يكون سريا،ً كما لو أنه ساحة لتوافقات وصفقات غامضة علي حساب الشهداء.. ومرة لأن اللقاء لم يخرج عنه شيء يقود إلي أي من الأمور التي قد تعيد بعض الكرامة لما أهينت منه تركيا.. ومرة لأن هذا يتناقض تماماً مع الخطاب الملتهب الذي ألقاه رجب طيب أردوغان بعد يومين من المذبحة. لكن إسرائيل لم تشأ أن تمر المناسبة بدون أن تصفع هي تركيا مرة جديدة.. كما لو أنها لم تكتف بالقتلي التسعة.. فبعد يوم واحد من هذا اللقاء السري كان أن خرج بنيامين نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل.. وقال: إن إسرائيل تريد أن تطور علاقاتها مع تركيا.. لكنها لا يمكن أبداً أن تعتذر لها. حتي الاعتذار لن تناله أنقرة.. بالتأكيد لن تحصل عليه.. إذا كانت قد وافقت علي عقد لقاء سري قبل أن يتخذ أي إجراء يعيد إليها بعض كرامتها.. وإذا كان لا يمكنها أن تواصل الصراع في ميدان حلفاء الولاياتالمتحدة.. لأن واشنطن قد أمرت أنقرة - سراً أو علناً - بأنه لا يمكن أن تبقي المواقف متوترة بين تل أبيب وأنقرة.. ومن ثم قفل أردوغان راجعاً.. وابتلع أوغلو كل ما كان يعلنه من لوم وانتقاد لإسرائيل. إن هذا الذي جري يثبت صحة التحليلات التي ذهبت إليها طيلة الشهر الماضي.. وسجلت فيها بدءاً من مقالي المطول (دفاعاً عن الكرامة التركية) بضع نقاط.. ومنها: - أن تركيا حليف أصيل للغرب لا يمكنها أن تضحي بذلك علي حساب توسعاتها الشكلانية المستجدة شرق أوسطياً. - أن العلاقة بين إسرائيل وتركيا استراتيجية لا يمكن التراجع عنها. - أن تركيا إنما تتاجر بالقضايا العربية من أجل تحقيق مصالح اقتصادية وتجارية. - أن كل هذا الصخب التركي سوف ينتهي إلي لا شيء. - أن تركيا لا تنافس أي دور لأي من الدول العربية صغرت أو كبرت فهي لا يمكن أن تخرج من منظومة حلف الأطلسي. - أن حلفاء تركيا الغربيين لن يساعدوها أبداً في أن تذهب بعيداً إذا ما تعلق الأمر بمصالح إسرائيل . والواقع أنني أعذر تركيا.. علي الرغم من فزعي مما يجري.. وعلي الرغم من أن الوقائع قد تسارعت لكي تثبت توقعاتي بأسرع مما تخيلت. لقد توهمت أن أنقرة سوف تعود أدراجها بعد وقت.. ولكن ليس بكل هذا اللهاث.. والعذر ملتمس من جانبي لتركيا للأسباب التالية: • تدرك تركيا حقيقة الأمور.. لن يتم تحقيق يعيد إليها أياً من كرامتها المهدرة.. بل إنه لو تم قد تصيبها إدانة من نتائجه في إطار التوازنات الدولية. وبالتالي تتحمل خسارة فوق خسارة. • لا يمكن لحكومة حزب العدالة والتنمية أن تتجاهل التشابكات المعقدة في علاقات التحالف الاستراتيجية بين تركيا وحلف الأطلسي.. (إلا إذا قررت أن تكون عضواً في حلف وارسو الذي لم يعد له وجود بعد نصف قرن من عضوية حزب الأطلسي).. والتحالفات الاستراتيجية المعقدة عسكرياً وتكنولوجياً ومصلحياً بين أنقرة وإسرائيل. • لا يمكن لحكومة حزب العدالة والتنمية أن تتجاهل أبداً تحذيرات الجيش التركي بشأن تأثير عبثها الإقليمي علي الأوضاع الداخلية والأمن القومي التركي بعد أمرين جديرين بالانتباه: انفجار تمرد الأكراد من جديد (ربما بإيعاز إسرائيلي)- عودة تفجيرات الإرهاب إلي داخل تركيا وفي أسطنبول.. مع تهديدات كردية بأنه سوف يشمل الإرهاب كل المدن التركية. إن حزب العدالة يمكنه أن يفعل أي شيء لصالح أن يبقي في الحكم بدون نزاع جديد مع الجيش.. ولتذهب كل الشعارات الوهمية إلي الجحيم. • لا يمكن لتركيا أن تجد تفسيراً علنياً مقبولاً يوضح التناقض ما بين كونها تعمل من أجل حقوق الفلسطينيين في ذات الوقت الذي لا يمكنها أن ترد حقوق الأكراد.. في الحالتين، نحن أمام قضية حقوق إنسانية مهدرة.. إسرائيل متهمة وتركيا أيضاً. • لا تستطيع تركيا أن تحرز أي تقدم بشأن الدور المزعوم لها شرق أوسطياً.. وفي القضايا العربية.. يعوض خسائرها مع إسرائيل.. أو خسائرها المتوقعة مع الاتحاد الأوروبي.. فهي في النهاية دولة وافدة غير ناطقة بالعربية.. ليس لها نفس القدر من العلاقات والتأثير التاريخي.. وهناك فرق مهول بين الدور السياسي المؤثر والدور الإعلامي الصاخب.. هذا له مواصفات وذاك لا يزيد علي كونه «كلام في كلام». أنا أعذر تركيا.. وأدعو الجميع إلي أن يعذروها.. وأن يمرروا لها هذه السقطة المهولة المتمثلة في لقاء أوغلو وبن إليعازر في بروكسل.. وأن يتجاهلوا هذا البالون الكاذب الذي فجرته أنقرة قبل اللقاء السري بيومين، حين منعت طائرة عسكرية إسرائيلية من أن تستخدم أجواءها.. لقد كان هذا مجرد سحابة دخان بلا قيمة. وأعذرها أيضاً لأنها حتي الآن لم تسترد السفينة التي شهدت مذبحة البحر.. (مرمرة) التي تحمل العلم التركي.. لم تزل أسيرة لإسرائيل في ميناء أشدود.. ولكن وسائل الإعلام التركية والعربية تتجاهل الأمر وتتغافل عنه.. ولم لا؟ إذا كانت أنقرة نفسها لا تتحدث عن الموضوع.. لعل إسرائيل تقبل أن تعيدها في أي وقت قريب. أنا أعذر تركيا ولكنني لا أعذر أبداً من يطنطنون لها في مصر وغيرها من الدول العربية. [email protected] www.abkamal.net