منذ أربعة أيام انقطعت نشرة الأخبار في محطة الجزيرة وانتقلت الكاميرا لتنقل خطابا لنتانياهو رئيس وزراء اسرائيل، أعلن فيه أنه يوافق علي الإفراج عن ألف أسير فلسطيني مقابل الإفراج عن الجندي الأسير لدي حماس. ثم أوضح أنه لن يوافق علي المزيد من الأسماء التي اعتبر أيديها ملطخة بدماء إسرائيليين، وبالنسبة لبعض الأسماء المفرج عنها اشترط أن يعيشوا خارج غزة وخارج الضفة أي في بلد عربي أو أي مكان يقبلهم. الخطاب يعتبر إعلانا مفاجئا من طرف واحد للنتيجة التي توصلت إليها الوساطة الألمانية بين إسرائيل وحماس. الواقع أن أي وساطة بين إسرائيل وأي طرف آخر في المنطقة العربية لحل أي مشكلة، لن يصل إلي أكثر مما يستطيع المصريون الوصول إليه. وهذا ما يدعوني إلي الاستنتاج من خلال كلمات نتانياهو نفسه، أنه لا يثق بأن حماس ستقبل ما يعرضه عليها وهو الإفراج عن ألف شخص مقابل شخص واحد، لذلك كان الهدف من خطابه كما أظن هو أنه يشهد الوسيط الألماني ودول أوروبا وكل من له صلة أو اهتمام بالقضية، علي أنه لم يعد في وسعه أن يقدم أكثر من ذلك. ولكن قبل ذلك كله، كان يريد أن يشهد المجتمع الإسرائيلي ذاته علي ما حدث لكي يطلب منهم في وضوح - وهو ما قاله فعلا - ألا يواصلوا الضغط علي الحكومة في هذا الاتجاه، أي وصل بهم إلي نقطة هي: أوافق علي الإفراج عن شليط بأكبر ثمن وليس بأي ثمن. غير أن هناك جملة لم تكن واضحة في خطابه وهي أن لديه حلولا أخري للمشكلة. نتانياهو إذن كان يعلن فشل آخر الوساطات للافراج عن جلعاد شليط وهي الوساطة الألمانية التي لم يكن يعرف أحد بوجودها، وبذلك يتسع الوقت امام قيادة حماس لتجربة الوساطة الصينية وبعدها الهندية واليابانية، فما أكثر فاعلي الخير في السياسة. رجل السياسة العادي الذي يفكر في مصلحة مجتمعه وأهله ويعمل من أجل تحقيق حياة أفضل لهم من أقصر الطرق، لابد أن يفكر علي النحو التالي: لا بأس.. هذه نتيجة ممتازة.. سأفرج عن شخص واحد في مقابل أن يسعد في فلسطين ألف شخص، بمائة ألف طفل وامرأة من أسرهم، بمئات الألوف من معارفهم وجيرانهم، هكذا أشيع بين ملايين الفلسطينيين حالة من البهجة لم يعرفوها من قبل. وهناك رجل السياسة غير العادي، إنه الزعيم الثوري المتصلب صاحب الثوابت، وبذلك يكون جلعاد شليط أحد ثوابته، بل ربما يكون الثابت الوحيد الذي يملك حرية التصرف فيه، فكيف يتخلي عن هذا الثابت العظيم ولو حتي مقابل الإفراج عن الشعب الفلسطيني كله؟ هنا نأتي لنظرية شهيرة في السلوك الثوري وهي نظرية «اليد الموجوعة» التي يعرفها المصريون جيدا. في أحيان كثيرة تخسر حقك لأن خصمك «ماسكك من إيدك اللي بتوجعك» الواقع أن هدف الخصم في هذه الحالة ليس الوصول إلي تحقيق هدف ما، بل الاستمتاع بأنه ماسكك من يدك الموجوعة، جلعاد شليط هو يد المجتمع الإسرائيلي الموجوعة وهو ما تعرفه حماس جيدا، إلا في حالة واحدة هي أن تحدث معجزة سياسية معطياتها ليست واضحة لدي. أمر آخر، الزعيم الثوري يعمل بشكل تلقائي علي قصقصة الزعماء من حوله حتي داخل حكومته وجماعته وحزبه، فهل يرحب بألف مواطن فلسطيني يهبطون عليه فجأة من السماء، نصفهم علي الأقل أبطال مناضلون من حقهم الحصول علي جزء من كعكة السلطة، هل تسمح حماس بذلك؟ لا أظن.