دامتْ المشكلة معي طوال سنوات، ولم تكن مشكلة من نوع يسهُل التحدُّث عنه، لكنها علي العموم لم تجعل حياتي جحيماً أحمر، ودوامها سنوات ليس إلا التعبير السييء عن اختفائها المؤقت إلي حد التلاشي، وظهورها المُفاجئ والمؤقت أيضاً، عندما يتجدد مناخ مُناسب لها، ليس لي علم بتقلباته. حَاوَلتُ مُحَاوَلَةً أخيرة بعيداً عن أي اهتمام، ودون أدني أمل في حل ناجع، بل وَجَدتُ تناقضاً طريفاً في أن تكون مُحَاوَلتي الأخيرة لا تتسم بصدق وجدية المُحَاوَلات السابقة عليها. كان تفسيري في لا مبالاتي أمام مُحَاوَلتي الأخيرة، هي أنها مُحَاوَلة تأتي في زمن يأسي، وبدافع من القصور الذاتي، أي أن مُحَاوَلتي قبل الأخيرة في حل المشكلة كانت بالفعل هي آخر مُحَاوَلَة حقيقية من جانبي، أمَّا ما أصفها الآن بأنها مُحَاوَلتي الأخيرة، فهي لا شيء علي الإطلاق. تتعلق المشكلة بشروعي في بداية لها من القوة ما يجعل الطريق إلي نهايتها تحصيل حاصل، أو أنها تلتهم المسافة بينها وبين نهايتها بمجرد الشروع فيها. أعرفُ أن بدايات أخري ملقاة علي قارعة الطريق مثل الحجارة، تنتظر من مَنْ يلتقطها، السير بها طريقاً. كان عليه أن يقيس زمن ملله ويأسه بمسافات مقطوعة تحجزها جدران شقته عن الاسترسال، كأنّ تجواله البيتي يمثل طقساً فريداً منسياً لديانة لم يعرف متنها الأصلي، لكنه لا يستطيع للطقس دفعاً. خطوات ممسوسة حثيثة تذرعُ البلاط والباركيه والسجاجيد مئات المرات لتحصد في النهاية خيالاً سميناً معلوفاً بتبْن الجنون. تخيل بأسًي لو أن المسافات المُتقطعة المكبوتة بصد الجدران، قُدِّر لها، فمُدت علي استقامتها عبر طريق طويل، لكان شعوره بالاطمئنان أفضل مما هو عليه الآن. كان الطريق في حلم يقظته الأبدي يأتي إليه ممدوداً في صباح شتوي باكر، تزينه من الجانبين أشجار سامقة، جذوعها سميكة راسخة مستقيمة، وهناك ضباب خفيف يهدهد العين وينعِّم الرؤية. أرض الطريق المدكوكة ندية ضيقة. كان يعرف أن عليه سير الطريق، إلا أن دوره لم يأت بعد، وما عليه الآن سوي الانتظار. كان الانتظار لا يزعجه، فهو يتيح له التفكير في أمور لطالما أحبها. أمن حقه أن يصبغ سيره بصبغة الأداء والأسلوب؟ كأنْ يلمس بأطراف أصابعه بين الحين والآخر جذوع الأشجار القوية، ويبتسم للمسافات المنتظمة بينها، ويمرر يده بحركة بطيئة، كأنه يملك الغفران لسنوات عمره، علي جبهته العريضة؟ أم يكتفي بالسير المُنزَّه عن الأداء والأسلوب؟ فلا شك أن السير في هذا الطريق كاف لنبذ الأساليب جميعاً. كان بعد لحظات من تخيل نفسه سائراً في الطريق، ودون أن يعلم، هل طالت تلك اللحظات أم قصرت، وكيف تم الانتقال، يجد نفسه في وضع مَنْ يتأمل طريقاً آخر شاغراً مُقفراً، من مكان مرتفع. الغريب أن التأمل غير مرهون بالسير أو الانتظار هذه المرة. المكان المرتفع أشبه بكافيتريا تبث بحياء أصواتاً رقيقة، تتفتح أحاديثها وتشتد مع القهوة الصباحية والمخبوزات الخفيفة. كانت أدني محاولة منه، وهو جالس إلي جوار النافذة يستولد حلمه بالصمت وطول التحديق، للفت نظر الزبائن المشغولين بفطورهم وقهوتهم، كافية لضياع الطريق. في الحقيقة لم يكن واثقاً في قدرتهم علي الرؤية، ليس لأن منهم مَنْ لا يملك الشفافية والعمق الكافي، بل لأنهم يمثلون هنا في الجوار بحديثهم اليومي جزءاً من الطريق السائر تحت أعينهم بشبحية دائمة. إنهم جزء من اللوحة التي تحتاج إلي مَنْ هو خارجها حتي يستطيع الحديث إليهم عنها. كَتَمَ فرحته بجمال الطريق، وعَجَنَ شوق إعادته في المستقبل بأشكال الإعادة اللانهائية المُتاحة لكل كاتب. وعرف ليس دونما خيبة أمل، أن تحديدات الخيال بعد نقطة الانطلاق اليسيرة، تكتسبُ شيئاً فشيئاً صلابة التحديدات الواقعية، وقد تفوقها تعقيداً، بل تتنكر عندما يشتد عودها من نقطة انطلاقها اليسيرة. ها هو حلم اليقظة بطريق ممدود للسير غير المُتقطع، يفضي إلي طريق آخر، شاغر ومُقفر. لحن نيتشه من القرن التاسع عشر، ردده دولوز في القرن العشرين، وقمتُ بتوزيعه في القرن الواحد والعشرين. العودة الدائمة ليستْ هي عودة شيء بعينه، لمكان أو زمان بعينه، بل إن العودة نفسها هي التي تعود، وإن كانت لا تنقطع عن شيء، ولا تهجر شيئاً، ولهذا لا يلحظ أحد عودتها، ولا يستطيع أحد أيضاً إثبات النقيض، أي إثبات أنها هي نفسها مَنْ عادتْ في المرة السابقة، وقد يكون عدم القدرة علي إثباتها، لا يعود إلي تكرارها، والعجز عن خفض هذا التكرار إلي رقم نهائي، بدلاً من رقمه اللانهائي، بل يعود فقط إلي تجددها الدائم، أي أنها ليستْ هي نفسها مَنْ عادتْ في المرة السابقة.