قد يحاول البعض الخلط بين الديمقراطية والفوضي، وهذا خطأ كبير، فهناك فرق شاسع لمستوي الوعي والنضوج ما بين المجتمعات النامية، والمجتمعات المتقدمة، لاسيما فيما يتعلق منها بالديمقراطية ومضامينها في سلوكيات الممارسة والتعاطي مع معانيها وأطرها الحضارية التي تشكل للمجتمعات المتقدمة ثابتًا يلتقي ويحتكم عنده الجميع لا يمكن تجاوزه. وتمثل الممارسة المسئولة للفعل الديمقراطي سياجًا حصينا للثوابت الوطنية ومسارات الإنجاز المتجدد للمواطن والوطن. فيما يأخذ التعاطي مع الديمقراطية في المجتمعات النامية شكلا مناقضا مما تواجه التجارب الديمقراطية من اخفاقات ومضايقات بسبب الوعي القاصر في التعاطي والممارسة غير المسئولة أو ملتزمة بقواعد وسياسة الديمقراطية، حيث تصبح العملية الديمقراطية شكلا من أشكال الفوضي والعبثية والاستغلال السييء لها، وهنا تبرز حقائق التباين. الديمقراطية تعني الحرية والتعبير عن الرأي والرأي الآخر، لكن عندما تأخذ أشكال الممارسة الديمقراطية مسارًا مناقضًا لمعاني المضمون، وتصبح الممارسة العدوانية اضرارًا وخروجًا فاضحًا عن المبادئ والقواعد الديمقراطية، وتتحول العملية بمجملها إلي هزلية، فهنا يتحول كل شيء إلي فوضي وإضرار بالحريات والملتقيات والجوامع التي دعت الديمقراطية إلي تعزيز بنيانها وليس إلي تدميرها، ويصبح التعاطي مع الخارجين عن ثوابت الإجماع والمضامين الديمقراطية واجبًا يقتضيه مبدأ العمل ومتطلبات المصلحة العليا للوطن. أقول هذا وأنا أتابع ظاهرة بدت تطفو علي سطح حياتنا اليومية مؤخرًا، بدأت كظاهرة صحية كفلها الدستور لكل مواطن، لكنها انقلبت إلي فوضي، تلك هي ظاهرة الاحتجاجات أو الاعتصامات التي قام بها أفراد أو جماعات يطالبون بحقوقهم المسلوبة، منهم علي حد تعبيرهم. بدأت كظاهرة صحية قام بها موظفو الضرائب العقارية وأودت بثمارها تلاها عمال العديد من الشركات الذين تظاهروا أمام مقر مجلس الوزراء ثم انتقلوا إلي رصيف مجلس الشعب واحتله البعض لمدة تجاوزت الشهر. الظاهرة بدأت صحيحة، حماها رجال الأمن بالصورة التي تمنع تغلغل بعض العناصر التي قد تضر بمصلحة الوطن، ولكن فجأة تحولت الظاهرة الديمقراطية إلي فوضي، فهذا الأب الذي يعلق المشانق في رقاب أطفاله الثلاثة بدعوي المطالبة بحق ابنته الصغيرة في دخول المدرسة، وهؤلاء العمال الذين ارتدوا ملابس داخلية ممزقة ووقفوا بها أمام عدسات الفضائيات، أو أولئك الذين أخذوا يقرعون بالحجارة علي بعض الأواني أو الأسوار الحديدية التي وضعتها أجهزة الأمن لحمايتهم. وأخيرًا محاولة البعض الدخول عنوة إلي داخل مجلس الشعب وهنا كان القرار فض هذه الاعتصامات وديا واخلاء رصيف المجلس، والذي تم بالفعل بصورة حضارية تحسب لرجال الأمن. ما حدث من هؤلاء هو اساءة لصورة وطن بكامله، وليس لأفراد بعينهم، حرية التعبير مكفولة للجميع، لكن بضوابط ووفقا للقانون، نحن نري عبر الفضائيات صورا عديدة من أشكال التظاهر في معظم دول العالم، لكنها صور حضارية لا تسيئ للمجتمع، نحن مع الحق، ونؤيد كل صاحب حق يدافع عن حقه، لكن بالطرق المشروعة. إنني أدعو كل شخص يبحث عن حقوقه أن يشعر بمسئوليته الاجتماعية تجاه الآخرين وتجاه المصالح العليا للمجتمع، كما يبحث عن حقوقه. الديمقراطية يا سادة تعني الحرية والمسئولية، وهي لا تتفق مع الفوضي، ولا تلتقي معها في طريق واحد، فهناك فرق بين التعبير عن الرأي، واستغلال هذا الحق في الإساءة لمشاعر الوطن والمواطنين.