هي غرفة واسعة، لها شرفتان عريضتان، الشرفة الأمامية تطل علي حديقة تحتها مقبرة، والخلفية تطل علي صحراء، قليلون يفضلون الجلوس أمام الشرفة الخلفية، والنزول إلي الصحراء، قليلون أيضا يفضلون التراوح بين الشرفتين، الأغلبية تطل علي الشرفة الأمامية، وتتنزه في الحديقة، في الصحراء أوراق الأسئلة علي هيئة صبار ونباتات وحشية، وعندما تضعف الأوراق وتوشك أن تموت، يلتقطها الجالسون أمامها ويعطونها لهؤلاء الذين يتراوحون، ولما تموت فعلا، تلتقطها أيدي مخلوقات الشرفة الأمامية، وتدفنها بعناية في المقبرة، الهواء والمياه والشمس تساعدها علي إنبات أشجار قوية زاهية الخضرة، هي أشجار الأجوبة، الجالسون في الخلف حياري، ضعفاء، ضائعون، الجالسون في الأمام أقوياء، كلماتهم مسكتة، يملكون فتنة الثقة والطمأنينة، الجالسون في الخلف يظنون أن المعرفة المستمرة جهل مستمر، ويعترفون بعجزهم وجهلهم، والأماميون يظنون أن المعرفة الضرورية الكافية يقين دائم، ويزهون بمعارفهم، الأمم والشعوب في لحظات الضعف والهزيمة مثلما نحن منذ فترة طويلة، لا تميل إلي سكان الشرفة الخلفية، تهملهم وتخاف منهم، الأمم والشعوب ستحتاج أكثر إلي سكان الأمام، لأنها تحتاج إلي الأمان والطمأنينة، تحتاج للماضي وللهوية الراسخة، الناظرون إلي الصحراء يكتبون أحيانا وإذا حاولت أن تقرأ كتاباتهم، فلا تعتمد طريقة القتلة والحاذقين، اقرأها بطريقة أبناء السبيل، فاروق شوشة ليس من أبناء السبيل، ولا تحاول أن تقرأ ما يكتبه الناظرون إلي حديقة المقبرة بطريقة الخائفين المرعوبين، فاروق شوشة ليس من الخائفين المرعوبين، لذا احذر أن تقرأ أناشيد أخناتون كما لو أنك تمتلك حنجرة الفاروق، واحذر أن تقرأ قصائد أمل دنقل بالحنجرة هذه، لأن طريقة فاروق عند أقصاها تنشع بالرقة العاطفية، وعند أدناها تنشع بالميوعة العاطفية، وأمل دنقل ها هو يقف خلف أخناتون الجالس ووجهه في اتجاه الحديقة، وها هو فاروق شوشة خارج المكان، إذا صادفتك بعض الشكوك والشقوق علي سطح قصيدة أمل، فلا تظن أنها شقوق حيرة، ولا أنها تخفي زلازل وبراكين، ثق أنها قد تكون شقوق جفاف، شقوق نشفان ريق، يكفي أن تشرب أربعة أكواب من الماء قبل أن تقرأ، واعلم أن الشقوق ستزول ومعها تزول الشكوك، صلاح عبد الصبور يجلس أمام الصحراء، إنه مفتون، له مؤيدون كثيرون، يعشقون حيرته، ويتجنبون أن يصيروا حياري مثله، كنا أيام صلاح، نتأمل العالم الشعري، ونزعم لأنفسنا أن دولة صلاح هي الكبري، وأن دولة حجازي لا تضم غير ثلاثة، وإذا سألنا أحدهم: ومن الثلاثة قلنا: حجازي نفسه، وأمل دنقل، وأحمد عنتر مصطفي، الأخير ظل لفترة طويلة، يظهر في الأماكن التي يظهر فيها أمل، يتبعه ويرافقه، كان صلاح يكتب شعر قلبه ونثر ثقافته ويتعذّب بالكتب، وحجازي يكتب شعر قلبه ونثر خبراته وتجاربه ولا يأبه بالكتب، وأمل يكتب شعر قلبه ولا يقرب النثر كي لا يفضح ثقافته، مقالة أمل في مجلة الفكر المعاصر لصاحبها عبد السلام رضوان والتي كتبها عن قصيدة حجازي (عرس المهدي) فيما أذكر، تدل علي غياب قدراته، كان صلاح شاعرا تحفر الثقافة روحه، فتزرعها بالشقاء والجوع، وحجازي شاعر تحفر التجارب روحه، فتزرعها بالرغبات والأهواء والنزوات وعشق الحياة، ثقافة صلاح عرفت اللغة ليست كحارس بناية، ولكن كأدوات حفر وتنقيب، وتجارب حجازي عرفتها كجدران ونُصب وأعمدة وسقوف، تحمي صاحبها من العيوب، ومن الشقاء، تحميه من كثرة الأسئلة،صلاح وعفيفي مطر شاعران مثقفان ، وحجازي وأمل شاعران فقط، ومثل لغة حجازي كانت لغة أمل، لإنصاف الإثنين يلزم أن نقول أن أمل ارتكز علي أرض التراث أكثر من صاحبه، ارتكز ارتكازاً من لن يفارق، فيما حاول حجازي المفارقة، وتمكن من الطيران في أجمل قصائده، لم يكمل أمل دراسته العليا، لم يسافر إلي أي مهرجان إلا مهرجان الشقيف بلبنان، وذلك بعد منتصف السبعينيات، يزعم الزاعمون أنه في هذا الوقت كان قد نجا من مطاردة التجنيد، كان قد سوّي أموره، ودفع غرامة الروغان بعد أن تجاوز السن لذا أمكنه السفر ، مازلت اذكر أن أحمد عنتر مصطفي بروغانه هو الآخر، كان علي الأرجح يقلد شاعره، عموما التجنيد في ظل نظم ديكتاتورية هو استعباد وسخرة، وفي ظل نظام تخالفك عقيدته هو أكثر من استعباد وسخرة، وهو علي شاعر يجلس أمام شرفة حديقة المقبرة أكثر من قيد، وهو علي غاضب أكثر من سلسلة قيود، وفي الأخير فإن النظم القومية ومنها الناصرية نفخت في خصوماتها الخارجية، من أجل تبرير استمرارها، من أجل تأجيل عدالتها المفقودة، من أجل تجنيد الأبرياء وسوقهم إلي الجبهة، لو لم توجد إسرائيل لبحثوا عن إسرائيل وهمية وأوجدوها، يبقي شك يراوض أنصار أمل وخصومه، هل كان أمل ضد نظام ناصر فعلا، أم أنه كان يحبه ويكرهه ويعارضه ويعترض عليه، أميل إلي هذا الافتراض، لأن إيمان أمل بالسلطات كلها، سلطة اللغة، وسلطة الخليل، وسلطة البداوة، وسلطة العادات، لن ينجرح كثيرا أمام سلطة الله، وسلطة النظام، قد يتشنج ويصير معارضا قويا من داخل السلطتين، قد يكون الابن الضال، وأمل ابن جيله الذي يحبه، وأغلبهم أبناء ضالون، سرده الشعري يشبه سردهم القصصي، ألاعيبهم لا يمكن أن تكون غير ستينية، محاوراته تنسجم مع محاورات قصص أصلان وبهاء طاهر وبعض ما كتبه نجيب محفوظ في تلك الأيام، انفجر شعر أمل بعد النكسة، انفجاره لم يحدث في مصر أولا، ولكنه حدث في تل أبيب أولا، كأنه تعقيب علي النكسة، واليسار الذي احتضنه في تللك الفترة، أسلم حضانته لليمين الذي يسود الآن، صبيان الانتفاضة الفلسطينية، وصبيان غزة، وصبياننا، يخفون تحت ملابسهم أوراق قصيدة (لا تصالح) ، باب اليسار مفتوح أحيانا علي باب اليمين، فيما الردهة الواصلة بين البابين مسقوفة باليقين، وبالإيمان المطلق، حيث النسبي أصبح غريبا، وإذا كان أمل وهو شاعر الغضب، فالغضب يصح أن يكون بسبب البحث عن المطلق،غضب أمل إيمان ومطلق، ديوانه (أقوال جديدة عن حرب البسوس) يضم ثلاث قصائد، لا تصالح، وأقوال اليمامة، ومراثي اليمامة، و(لا تصالح) مكتوبة كوصايا عشر، كتبها كليب بدمه علي شاهد من الرخام، وكليب الذي قُتل علي يد جساس، هو زوج ابنة عمه جليلة أخت جساس، وهو أبو اليمامة كبري بناته، ولا تصالح قصيدة مجزومة القافية، مزمومة الفم، حاسمة، لا تقبل الحوار، ولا تتردد في إعلان الخصومة الأبدية، ولا تنام تحت سؤال، ولا تنام فوق سؤال، إنها ستّ الأجوبة المسكتة، ست الكل، والتي تغلق كل باب، ما عدا باب الثأر، الجزم هنا هو آلة رؤية، هو آلة الرؤيا بألف لام التعريف، هو ضرورة، هو الضرورة، القافية المجزومة تمتحن وجودها الأزلي، أقوال اليمامة ومراثيها، أيضا مجزومة، جزم النواح والعويل، وجزم الرفض والإصرار، شعر أمل يجبرك علي أن تقرأه بطريقة واحدة، فكما أنه لا يتشتت في غابة المعاني ،هو أيضا لا يتشتت في غابة الأصوات، إنه شعر الوجه الواحد في الصوت والمعني، مع بعض الاستثناء في (أوراق الغرفة رقم 8)، كان الشعر العربي في أغلب أزمنته الكلاسيكية، شعر معني وسماع، إلا فيما ندر، وعندما ظهرت تباشير الرومانسية أصبح علي حافة أن يكون شعر معني ونظر، لكن شعراء المدرسة الحديثة الذين خلفوا الرومانسيين أوغلوا أكثر باستثناء نفر قليل ، هؤلاء النفر اعتدوا علي المعني، ونادوا بما أسموه الحالات، ليصير الشعر عندهم شعر حالات ونظر، كلاسيكية أمل غير المنكورة، والتي أجلسته أمام شرفة حديقة المقبرة، جعلته يراوح بين الاثنين: المعني والنظر، والمعني والسماع، ويميل إلي الثانية أكثر، أما الحالات والنظر فلم تصبه بشرارها إلا بعد دخوله الغرفة رقم 8، الجماهير الشعرية وهي أكبر عدد من قراء الشعر، مازالت علي حالها، مسكونة بالكلاسيكية أكثر، مسكونة بالسماع والإيمان والمطلق والأبدية، مسكونة بضجيج حناجرها، قافية أمل تشبه جماهير الشعر، تشبه حناجرهم وقلوبهم ومعارفهم التي تخاف من القلق، أمل أكثر من سواه إيمانا بالماضي، وإهمالا للمستقبل، ولو سمّي ديوانه العهد الآتي، لا تنخدع وانتبه أكثر إلي قوة البديع، إلي قوة التناقض بين القديم والآتي، لا إلي قوة الزمن، في قصيدته (ميتة عصرية) من ديوان (تعليق علي ما حدث)، يكتب أمل: (من ذلك الهائم في البرية، ينام تحت الشجر الملتف والقناطر الخيرية، مولاي هذا النيل، نيلنا القديم، أين تري يعمل أو يقيم، هل كان قائدا، مولاي ليس قائدا، لكنما السياح في مطالع الأعوام، يأتون كي يروه)، الفلسطيني التائه خيري منصور نبه قراءه إلي قصيدة الماغوط السابقة علي قصيدة أمل: (من هذا الشبح الراقد علي الأرصفة، والنمل يتجاذب مسبحته ومنديله وخصلات شعره، إنه بردي، بردي، لا أذكر أخا أو صديقا بهذا الاسم، أهو صندوق أم جدار، مولاي إنه بردي)، خيري نبه قراءه إلي ما اعتبره سرقة، هل هي سرقة أم هي ثقافة أمل ونظرته إلي قصيدة النثر، إنها ثقافته الموروثة، نثر الماغوط ومعناه أثارا إعجاب أمل، والشعر عند أمل معني، فأخذ المعني دون شعور بالذنب، وادخله في قالب الوزن والقافية، والشعر عند أمل وزن وربما قافية، الغريب أن قصيدة الماغوط ظلت الأجمل ليس لأنها الأصل، ولكن لأنها المعني الهارب، المعني عند أمل جاء ممسوكا بوتد، ومدقوقا علي حائط ، هي غرفة واسعة لها شرفتان عريضتان، في الغرفة رايت أخناتون يبحث عن معني لعله التوحيد، والأغيار يحبون التعدد، في الغرفة رأيت أمل يجاور أخناتون ويبحث عن التوحيد، وعن إناء غير قابل للكسر، غير قابل لأن ينزف المعاني المضادة، والأغيار يحبون المعاني المضادة، صار أخناتون وأمل دنقل الناجيين من الجلوس أمام الصحراء، صارا من حراس الحديقة.