حين أتيت إلي القاهرة أول مرة كان ذلك عام 1964، كنا قد جئنا في رحلة مدرسية إلي القاهرةوأسوان، بدأت بأسوان أولا، كنت في القطار إلي أسوان وفي أسوان ذاتها لا أفكر إلا في القاهرة التي عرفتها في روايات نجيب محفوظ وفي السينما وعشقتها دون أن أراها، زرنا في أسوان موقع السد العالي وعدنا فخورين إلي القاهرة، كان معنا مدرس شاب قاهري الأصل لا أذكر إلا أن اسمه محمود وكنا نحبه جدا، صحبنا إلي المعالم السياحية وكان حريصا علي الحديث عنها بفخر كما كان حريصا أن نأكل الكشري الذي اندهسنا منه نحن السكندريين لأن فيه مكرونة وعدس بجبة ونحن تعودنا علي كشري البحر المتوسط، الأرز والعدس الأصفر، لكننا أكلنا كشري القاهرة من أجل الأستاذ محمود وأضفنا عليه كثيرا من الشطة حتي لا ننسي، عادت الرحلة بدوني، كنت أريد أن أبقي في بلد نجيب محفوظ، أمشي في شوارع الجمالية لعلي أقابل كمال أو ياسين عبد الجواد أو زنوبة أو رشدي من زقاق المدق ونسيت أنهم أبطال روايات، عدت متأخرا عدة ايام ووجدت مناحة في البيت والمدرسة ولم يعرف أحد أنني كنت نويت البقاء والانقطاع عن الدراسة وكدت أعمل في أحد المحال بالحسين وكدت أيضا أموت من الجوع لأن نقودي نفدت ولم يعد ممكنا النوم في مسجد الحسين أكثر من ذلك، عدت الي الإسكندرية وفي روحي عزم أن أعود إلي القاهرة مهما طال الزمن، في عام 1969 نشرت أول قصة قصيرة لي وبعدها نشرت أكثر من قصة علي فترات متباعدة وأتيت أكثر من مرة لأحصل علي مكافأة القصص، خمسة جنيهات ياجدع لكنها كانت تكفي شهرا، عرفت الطريق إلي مقهي ريش ومقهي زهرة البستان وفيما بعد مقهي الحميدية وفينيكس وطبعا المستودع الذي سميناه المستنقع وفيما بعد الجريون، ثم حدث الاستقرار هنا في عام 1974، ومع الاستقرار لم أحب القاهرة، اكتشفت إنها مدينة ظالمة بزحامها وضوضائها، تمنيت يوما أن أمشي مع حبيبتي في شارع السبق بمصر الجديدة كما مشي عبدالحليم حافظ ولبني عبد العزيز، وحدث قبل الاستقرار النهائي أن مشيت فيه معها، لم أجده خاليا أبدا كما بان في الفيلم،وهربنا منه إلي الميريلاند، تمنيت ان أمشي في المعادي حول الترعة التي غني فيها عبد الحيم لماجدة فلم اجد الترعة ووجدت المباني تزحف علي المعادي كل يوم، تمنيت أن أمشي في عين شمس بين الآثار التي نقش عبد الحليم حافظ ولبني عبد العزيز اسميهما علي أعمدتها وكلما سألت أحدا عن ذلك يضحك ولم أصل إليها أبدا لأنها هدمت واختفت ولم أحب عين شمس أبدًا حتي اليوم لانه أيضا صارت الحبيبة التي مشيت معها في شارع السبق وتمنيت أن أذهب معها الي الآثار في عين شمس وكانت تسكن في بيت الطالبات بروكسي صارت إحدي قصص الحب الضائع، ورغم عدم حبي للقاهرة عشت فيها ناسيا أني فيها لأن أحاديث الأدباء في هذه الأماكن التي أشرت اليها كانت تصنع عالما آخر نحلم به، يوتوبيا نتمناها ومدينة فاضلة، كل الأدباء والفنانين غاضبون من كل شيء حتي من بعضهم وكلهم يرون ما يجري علي الأرض جناية علي الناس والأوطان والحقيقة الوحيدة هي ما يكتبون، هذا هو قدر الأدباء والمبدعين في كل الدنيا، ولا أقول قدر المفكرين، فالأدباء والمبدعون حتي لو كانوا في الجنة سيرونها أقل مما يتوقعون، هذا طبعا إذا كان في الجنة أدب وأدباء، لم أختلف عنهم و ليس بإرادتي ولكن بطبيعة الموهبة، هكذا أتذكر من رحل منهم من أصحاب الغضب العظيم مثل أمل دنقل ونجيب سرور أو اصحاب الرفض العظيم أيضا مثل يحي الطاهر عبد الله او الباقون من الأدباء وكلهم بين الرفض والغضب وإن سهروا في ريش والجريون أو لعبوا الطاولة علي البستان أوصخبوا في المستودع، في النهاية يعود الجميع إلي اقلامهم وابداعهم وينتهي العالم من حولهم حتي يخرجون في اليوم التالي، العالم المعيش هو العالم الاستثنائي، والعالم الحقيقي هو ما قدموه من إبداع، الأمر نفسه ينطبق علي كل من عرفت من فنانين تشكيليين راحلين مثل اللامنتمي الأعظم جودة خليفة تملأ ضحكاته الفضاء أو اللامنتمي في صمت لا يزيد انطباعه عن ابتسامة وهو يحدثك عن جمال الأبيض والأسود، القلم مادة الفقراء في التشكيل، وأعني به محمود بقشيش، والأمر نفسه ينطبق علي الموهوبين من الأحياء، وتستطيع أن تمد الخيط إلي جميع المبدعين في كل المجالات، الموهوبون بالتحديد، من رحل من كل هؤلاء رحل وهو يشعر أن مشروعه لم يكتمل ولو عاش أكثر كان سيبدع أكثر لكنه لم يكن سيفوز بالرضا أبدا عما حوله، زمان كنت أظن ذلك من أثر التربية السياسية أو الاقتراب من السياسة وتهمها الجاهزة التي ذهبت بالكثير من المبدعين إلي السجون والمعتقلات ناهيك عن فقد الوظائف أو الاضطهاد الذي وقع عليهم في أعمالهم، ورغم أن الكثيرين وأنا منهم لم نكن بعيدين عن السياسة والتنظيمات السرية فإنه حتي لو لم يحدث ذلك، لم يكن ممكنا الرضا عن العالم، تغيير العالم وصناعة عالم أجمل هو قدر المبدعين، لكن هذا العالم الأفضل لا يتحقق إلا في الابداع نفسه حتي لو كان الابداع مؤلما في موضوعه، تغيير العالم وصناعة عالم أفضل كان ولا يزال هو عمل المبدعين المنقطعين إلي هذه الأماكن التي ذكرتها من قبل، أو التي بقي منها، والتي تسمي المنطقة التي تقع فيها بالمثلث الجهنمي، فمنها خرجت البيانات ضد الظلم ومنها خرجت البيانات تعلن عن موجة جديدة من الفن والإبداع، لم يتغير العالم الواقعي حولنا، بل تراجع كثيرا لأسباب طال فيها الكلام من قبل، مني أو من غيري، واشترك في هذا التراجع قوي كثيرة طال فيها الكلام أيضا من قبل، وسيطول من بعد، لم يقترب العالم الواقعي أبدا من الجمال الذي ابتغيناه، لكن العالم الفني حقق طفرات في جمال النصوص وحقق فتوحات وكشوفات ويحقق كل يوم ونحن لسنا في غاية الرضا عما حولنا ولا عن أنفسنا.