لأنني لا أذهب إلي هدفٍ معين دون أن أعود إلي الذات، وبقدر ما تكون العودة مُفاجئة، بقدر ما تكون مؤلمة، إلا أن الهدف القريب أقل مُفاجأةً وألماً من الهدف البعيد، بسبب المسافة المتناهية في الصغر بين الهدف القريب وبين الذات، وكأنَّ رفَّة عين كفيلة لاصطدامي بحاجز الذات الكريه، فأعرفُ سريعاً زيف الهدف، أو علي الأقل استحالة فصله عن الذات. علي النقيض عندما يكون الهدف بعيداً، وأكون مُستغْرقاً فيه طوال أيام وشهور، أقطعُ فيها طريقاً قفراً للوصول، وأنا أحمل مؤونة الحماية من الجوع والعطش. أتوجَّه إلي الهدف البعيد، الواقع علي حدود الذات، حدود نائية أيضاً، إذاً كيف يكون الهدف بعيداً، إذا لم تلمس حدوده حدوداً أخري بعيدة، نقاط تفتيش أمنية، ذواتاً حدودية مُصغَّرة من ذاتي الكريهة، لكنها هنا علي الطريق، مُعدَّة لانطلاقتي الكبيرة، هنا فقط هي تَذْكِرة، وتأمين من الضياع، وصون من خطورة الطريق. وبعد آخر نقطة حدودية، عندما تنفتح أمامي المسافة، وبينما أفكِّرُ بسرور في العتق، وأن سن رشدي تجاوز نقاطَ ذواتي المرورية، أجدُ في نهاية الطريق، ذاتي التي هربتُ منها، والهدف البعيد، والانطلاقة المُبَارَكَة، شيئاً واحداً. أعود إلي البيت مهدوداً، محمر العينين. دوش الماء الساخن الآن بألف هدفٍ وألف طريق، وعند تأزُّم الأمور لا سبيل لرفع المعنويات إلا بأشياء حسية بسيطة، وكما كانت الصفعة علي خد التحليل النفسي قاسية، وبعد عقود طويلة من الإيمان بأن هناك مرضاً نفسياً لا يحتاج إلا لخيط الحديث الناعم بين الطبيب والمريض، عادتْ العائلة سيئة السمعة، جزارة طب العصابيين، الزانكس والفاليوم والبروزاك، لحقن ميوعة وأنوثة التحليل النفسي بشيء من الصلابة والرجولة. صيحة جيل دولوز في سبعينيات القرن الماضي: أيها المحللون.. مات التحليل النفسي.. حللوا. المريض إللي يتكسر له ضلع اكسر له التاني. بعد الدوش وعلبة زبادي بالتوت وقطعة خبز وحبتين زانكس وسيجارة وفنجان قهوة، كنتُ قادراً علي مواجهة خيبة الأمل في الأهداف القريبة والبعيدة علي حد سواء. فتحتُ نافذة الغرفة، ومن الطابق الثامن كنتُ كاشفاً لمحطة السكة الحديد. كانت رؤوس القطارات الراشدة تستعد لجر جسم العربات القاصرة. لطالما آمنتُ أن القطار مُفكِّر كبير، بإكصدامه الحديدي المنيع، وعينيه الثابتة علي الطريق، وبخار الفكر يخرج نافورةً من أعلي رأسه، فكر من العيار الثقيل، حطب معدة رأسه هو، جوهر أرسطو، كوجيتو ديكارت، موناد ليبنتز، شرط كانط، قفزة كيركيجارد، إرادة شوبنهور، قوة شيلينج، ديمومة برجسون، يتلظَّي بشهيق. لقطات شهيرة لقطارات في السينما الكلاسيكية، هجوم الرؤوس المُفكِّرة علي المُشاهدين، صرخات يافعة، سحر الاختراع، تهذيب جمالي مع السنين، ليس هجوماً علي المُشاهدين، وإنما علي عدسة التصوير، الملابس الداخلية الحديدية لقطارات استعرائية، أنتَ هذه المرة مع عدسة التصوير تحت القطار، أجسام عربات القطار القاصرة، وهي تقطع الكادر أفقياً كنايةً عن مرور الزمن، فيلم ديفيد لين لقاء وجيز، القطار بزاوية انحراف فريدة يملأ سماء الكادر بدخان كثيف، سارينة القطار في فيلم ثيو أنجيلوبولوس نحيب الحقول، القطار المنزل في فيلم حدث مرة في الغرب لسيرجو ليوني، أقدام القطار، وهي تحرر توكو أحد أبطال فيلم الطيب والشرس والقبيح لنفس المخرج، استعارة القطار الغائب الحاضر علي طول فيلم آلان باركر قطار منتصف الليل، مقصورات النوم في فيلم البعض يفضلونها ساخنة لبيلي وايلدر، جاك ليمون، في دور عازفة البيز جيتار دافني، دور عمره، تقبض دافني علي فرملة الطوارئ بسبب قطعة ثلج في ظهرها، عجلة القطار الحديد علي شريط السكة الحديد، صرخة الحديد علي الحديد، قطار حلم يقظة كان برأس نيتشه يدخل نفقاً، وكان شاربه الكثيف الحديد هو إكصدام رأس القطار الحديد، وكان كالسهم ينحدر مستقيما إلي ظلام النفق، أهدافه بعيدة، لا نقاط تفتيش، لا كارتة مرور، لا محطات توقف علي الطريق، يندفع فقط بعماء السرعة إلي عمق النفق المظلم، وزفير رأسه يحرق طيور السماء، وعيناه تُحدِّق بنظرةٍ من حديد.