«حضرة المحترم مؤنس أفندي ياقوت: مرسل لكم طيه كشف بمبلغ 92 جنيه و17 قرش و3 مليم عن قيمة ما صرف في بياض الغرفة البحرية بمنزل حارة قاوين». كان ذلك هو البيان الذي قرأه نجيب الريحاني فور استلامه العمل كاتبًا في أملاك أحد باشوات زمان، وحيث تندر الريحاني قائلا: «أوضة واحدة» ليه.. بياض بلبن زبادي؟ بمربة تفاح؟ ناظر الوقف بتاعنا ده حرامي وحمار كمان». عندها قال الناظر الذي سمع التعليق: طيب يقيدهم ازاي؟ ودون أن يعرفه الريحاني قال «نكتب: كحت البياض القديم كذا، سنفرة الحيطان بعد الكحت: كذا، تقطيب الخروم بعد السنفرة: كذا، تمليس الحيطان بعد التقطيب كذا، ودهان أول وش: كذا، دهان ثاني وش كذا، دهان ثالث وش: «كذا، كده نكتب الكشف 192 جنيه كمان». وسأل الناظر: طيب لو كتبنا تكاليف الخروف 18 جنيه تبقي كتير؟ تعجب الريحاني قائلا: ليه خروف مسكوفي! إحنا ندون: حبل ومخلة وجردل لزوم أكل الخروف كذا، حكيم بيطري لزوم علاج الخروف كذا، مزين لحلاقة شعر الخروف: كذا، أكل وشرب للخروف: كذا، كلاف لتنظيف حظيرة الخروف: كذا، كده نخليها 48 جنيه مش 18، كده الشغل مش الناظر الغبي بتاعنا». فوجئ الريحاني أن المحاور هو الناظر بشحمه ولحمه، حاول الهرب لكن الناظر تمسك به بكل الشدة قائلا: «إنت قبيح لكن عبقري مش ممكن أستغني عن الشيطنة بتاعتك في أمور الحساب». وأردف الناظر طالبا من الريحاني زيادة النصب ورفع قيمة الكشف قائلا بكل أريحية: بحبح.. بحبح!! وكان ذلك كله في فيلم لا ينسي.. أبوحلموس.. وكانت العملات: القرش المليم ذات قيمة كبيرة قبل انهيار الاقتصاد المصري، قبل السداح مداح، قبل الخصخصة والعولمة والانصياع لأوامر واشنطون ونصائح الأصدقاء في لندن وباريس وتل أبيب قبل المشروعات الوهمية والتكاليف الناظرية. اعذروني لإطالة الكتابة حول تفصيل حدث في شريط سينمائي.. لكن الموفق يمكنه التعليق دون مجهود قائلا: أبوحلموس مازال علي قيد الحياة.. ينمو ويتكاثر ويتضخم.. ثراء وسيطرة ولمعانا.. بل إنه يكتسب شرعية الواقع بكل ما فيه من مرارة.. وحيث المحروسة تزدحم بآلاف «الحلاميس» في كل ركن وموقع وما أكثر «كشوفات» مصر فيما يخص بياض الحجرة المصرية أو فيما يتعلق منها بالخروف المسكوفي. ولا يزال الناظر علي قيد اللهف والشفط مرددا دون شبع بحبح.. بحبح، وتحويل الحساب للخارج سهل.. والخروج من المطار يسير.. والعيش في الغرب كله رفاهية وراحة بال علي أي حال، واسألوا سكان ماي فير في لندن وستاتن إيلاند في نيويورك!! وصاحب الوقف «علي رأي الريحاني: وقف الحال» غير متيقظ، أو ربما غير واع أو غير مهتم، أو ربما غير موجود أصلا.. قد يكون منوما بمباراة كرة أو «سي دي» خارج أو مشغولا بوقائع جريمة قتل أو محاكمة رجل أعمال الزمن الرديء، أو أنه واقف بعيدا. تائه.. ضمن مئات في طابور عيش دموي، يخرج منه ذاهبا إلي طابور تموين أو بطاقة سجل مدني، يلتحق بعدها بطابور المعاشات، بعيدا عن المنزل وأبوحلموس والناظر.. بينهما رابطة تعايش وتكافل.. تبادل منفعة.. تعاون حميم بدون بر ولا تقوي، دون ضمير أو وازع من حب لوطن أو مواطن أو خشية عقاب أو حساب ومن ثم تتكاثر المليارات بعد الملايين في ثراء فاحش أو فاجر «عذرا» دون ذرة حياء أو خجل وبذا تزداد نسبة ال2% أو ال3% المميزة.. كي تصل إلي 5% أو أكثر من تعداد شعب يعاني الفقر بكل قسوته 24 ساعة يوميا، 366 يوما سنويا. ومجتمع ال5% صريح.. واضح: السيارات المليونية، ومعسكرات السكن «كومباوند» ذات الأسوار العالية التي تعزلها عن الغوغاء، وقصور الجولف والمسابح والحدائق التي يشاهدها الدهماء «ال95%» علي شاشات التليفزيون المصري، مثلها مثل السيارات المذكورة، وأقسم أنني وقفت مشدوها أمام سيارة هامر يزيد سعرها علي المليون، «مركونة» فوق رصيف مكسور في حارة داخل حي شعبي!! هذا.. مع مختلف جنسيات الجامعات ذات المصاريف الفلكية في مصر: ألمانية وفرنسية وكندية وغيرها ضمن تصنيف وتميز مهين لبتوع مكتب التنسيق وموطنهم الأصلي شبرا والحضرة والوايلي وكرموز وسبرباي، ناهيك عن أصناف الطعام التي تصل من خارج المحروسة، بعد تفشي ظاهرة سلاسل المطاعم الأجنبية في قري مصر، وذلك بعد عدوي التوكيلات والسمسرة ونفع واستنفع.. والذي منه، وعلنًا.. وبعد تقنين مبدأ المرحوم السادات: «اللي لم يغتني في عصري.. لن يغتني أبدًا».. وبعد تكرار وصول المطربات ماركة شاكيرا وبيونسيه إلي هضبة الهرم للغناء ساعتين مقابل الملايين من جنيهات شعب فقير فقر لدرجة تدعو للحزن وربما البكاء.. ودون مبالغة قمة جبلية وقاع سحيق وبينهما فجوة رهيبة. إذن ثراء خرافي هنا.. وفقر «خرافي أيضا» هنا «برضه».. في وجود الحلموس والناظر.. وهلم نصبا. لا يكلمني أحد عن المرض والإسكان وسوء التغذية والتلوث والأسعار والتعليم وغيرها من هموم تحطم أعصاب وعظام المخلوق المصري. لكن ذلك كله لا يهم.. المهم ضبط أو «تظبيط» كشف الحساب ولو شكليا.. خوفا من الحسد «وليس القانون».. المهم كحت البياض القديم وحبل ومخلة وجردل للخروف!! المهم.. سعادة الناظر والحلموس.. وتكرار صيحة «بحبح.. بحبح» المهم الناظر يعيش، ونضحي بالتلامذة!! وحتي دهان آخر وش!!