قال لي صاحبي الملحن جداً وهو يبكي بحرقة كنت علشان تسمع أغنية تهدأ وتجلس كي تفهم الكلمات والألحان - كنت تتعلم الأدب في السماع أما اليوم في زمان الأغنية - المصورة الفيديو كلب - أو جحش - فالأمر مختلف، فهي أغنية تعتمد علي كل فنون القفز والنط والدوران علي فروة الرأس في حركة الخنفساء أو احتضار الصراصير والأبراص.. بلاهة تقوم كذلك علي دراسة موسعة في حركة الزواحف والحشرات متعددة الأطراف في سعيها الدائم بحثاً عن الغذاء في أركان المباني والسقوف والجدران، جنون يستدعي ركوب المطرب أو المطربة - أو اللا مطرب واللا مطربة - كل أنواع الخيول والبغال والحمير والطائرات والسيارات والدراجات والموتوسيكلات، وتسلق الكباري والسطوح والأبراج والأمواج، وارتياد الصحاري والقفار والخراب والعمار، والغوص في البحار والأنهار، ومقياس النيل وجوف الليل (هبل) يقتضي الجري في الحدائق والغابات والأحراش والأحواش والترب والمتاهات والمغارات.. فهذا زمن الأصوات الخنفاء العرجاء التي تخفي عيب الكلمات والأصوات، بالبحث عن (ستار) يستر عيب الغناء بالمبالغة في خلق صورة هبلاء.. تخدع البلهاء. ووجدنا أنفسنا ونحن أمام أصوات تشبه (سارينات) سيارات البوليس.. تحاكيها في السرسعة والولولة، أصوات (معدنية) تنطلق من حلوق مفتوحة ليل نهار.. تصرخ في وجوهنا بكلمات فارغة، مات فيها الشوق والجمال، وبهت فيها الحب حتي أصبح الحب دليلاً علي البذاءة والنذالة والخنوع، وأصبح التهديد بالفراق والذبح والعذاب وسوء المصير.. هو النغمة الغالبة. وكأن المطربة (مطلقة) أمام محكمة تطالب طليقها - بالنفقة - و.. الخ. (وهو انت لازم تندبح عشان تحب) وتأتيك أصوات ( المتر بين ) الرجال من مخارج لا علاقة لها بالطرب.. غناء قادم من الجيوب الأنفية وأصوات لا تعرف مسارها الصحيح للآذان ( خنافة) وزن أنفي لا أكثر - أو فحيح مريض لصوت مخنث لا تعرف إن كان لفتي أو لفتاة، ويأتيك مطرب آخر حائر بصوته الغائر - فمه نصف مفتوح للغناء - لا يعرف إن كان سيغني أم يبتسم لمشاهديه، وهو عبقري فعلاً إذ يغني ويبتسم ويتنفس من فمه - وأنفه مرفوع للسماء تعالياً وإعجاباً بموهبته ( السخيفة) الفذة. وفي البدء كانت الكلمة - أما الآن ففي البدء كانت كركبة الآلات الموسيقية الزاعقة والإيقاعات سابقة التجهيز دولياً. والتي إن صلحت لكل بلاد الدنيا فهي لا تصلح للشجن المصري في الغناء. هذه القوالب الموسيقية الإليكترونية حولت بعض الأصوات الجميلة إلي أصوات تحاكي صوت الكلاكس، وأدوات الإنذار وأجراس الاسعاف، حتي أصبحت لدينا مجموعة عظيمة من الأبواق الغنائية علي الشاشة بدعوي التطور والانتقال من أيام المطرب (اللوح) إلي المطرب النطاط، وأصبح رصيدنا من الاستعراض الغنائي أو الهبل الغنائي واسعاً شاسعاً نباهي به الأمم. ويأتي دور الصورة وعناصر إخراج هذه الأعمال الرهيبة - فتشاهد شموعاً ساطعة ونيراناً والعة ودخاناً منطلقاً - وفرد كاوتش محروق، وقللاً وحيات وأحذية قديمة وبدلاً تصلح لأموات القرن الماضي. وأدوات موسيقية قديمة وجماجم وفهوداً وأسوداً وكلاباً من كل نوع - ولا تعجب فرزق الهبل علي المجانين - والحكاية لا تخرج عن كونها سبوبة لأكل العيش - فالسينما معطلة والغناء أصابه الغباء - وكله يلاعب كله.. والأمر لله.