لا يقتصر دور الاستعارات وتأثيرها علي النصوص الإبداعية والنقدية، بل يمتد إلي حياتنا اليومية، وكثير من تصرفاتنا نتحكم فيها تصوراتنا الاستعارية، بل تتأثر تلك التصرفات عندما نعيد النظر في أحد تلك التصورات أو نغيرها أو نستبدل بها تصورا استعاريا آخر. وقد نمد الخيط إلي آخره ليصبح الكثير من تصرفاتنا أو آرائنا نتاجا لصراع أو جدل بين استعارات مختلفة. و كتاب " الاستعارات التي نحيا بها " لجورج لايكوف ومارك جونسن. ترجمة عبد المجيد جحفة، تكمن أهميته في أنه يجعل القارئ ينتبه ويتوقف عند جمل كثيرة يقولها عفو الخاطر أو كما اعتاد استخدامها، ويري أنها ليست أمورا مسلما بها أو بديهية، وليست الوجه الوحيد للحقيقة بل هي اعتياد علي حقيقة من ضمن حقائق كثيرة يمكن أن تتبدل أو تتغير حسب الاستعارات التي ننطلق منها. ويبدأ الكتاب بالحديث عن الجدال وكيف يتم تصوره علي أنه حرب ومن الاستعارات التي يذكرها " أصابت انتقاداته الهدف. لقد هدمت حجته. لم أنتصر عليه يوما في جدال . إنه يسقط جميع براهيني " ولو انتقلنا إلي تاريخنا الأدبي المعاصر نستطيع أن نتذكر كيف أن الجدال بين كاتبين أو أكثر كان تتم تسميته وما زالت بالمعارك الأدبية والفكرية. ويتتبع القراء تلك المعارك ناظرين لكل مقالة علي أنها أسلحة يصوبها الكاتب إلي خصمه أو من يخالفه الرأي، ويترقبون من منهما يستطيع القضاء علي أدلة وبراهين الآخر وكيف سيفاجئ أحدهما الآخر بحقائق أو أسلحة جديدة تربك الخصم وقد يعجز عن الرد عليها. وكما يؤكد الكتاب فليس الأمر مقصورًا علي الحديث عن الجدال بعبارات مستمدة من قاموس الحروب، بل إن ما نفعله أو ردود أفعالنا مستمدة من تصوراتنا إن الجدال حرب. فليس الأمر هنا مجرد استعارة لغوية، بل هو رؤيتنا بالفعل للجدال وتعاملنا معه علي أنه حرب لابد أن نحقق فيها الانتصار. وحتي يوضح الكاتب فكرته يدعو القارئ " لنتخيل ثقافة ينظر فيها إلي الجدال باعتباره رقصة والمتجادلان ممثلان هدفهما إنجاز الرقصة ببراعة وأناقة، ففي ثقافة كهذه سينظر الناس إلي الجدالات بشكل مخالف، وقد يندهش قارئ من تخيل الجدال رقصة لأن ثقافته لا تسمح بهذا، أو لأن الاستعارات التي ينطلق منها واستقر عليها ويبني من خلالها عالمه وأفكاره لا تتقبل تصور الجدال أو حتي المناقشة العادية علي أنها رقصة، بل يجب عليه تحقيق الانتصار والقضاء علي آراء خصومه. ومن الأمثلة المهمة التي ترد في الكتاب وتوضح كيف يؤدي اختلاف فهم الاستعارة إلي تباين تصرفاتنا وطرق حياتنا، هذا المثال الذي اكتشفه الكاتبان بالصدفة، فقد وجدا أن أحد طلابهما وهو إيراني وصل بيركلي في الولاياتالمتحدة منذ مدة قصيرة يفهم عبارة " مشاكلي محلولة " علي أنها استعارة جميلة " توحي له بقدر كبير يحوي سائلا يفور وينبعث منه بخار يتضمن كل مشاكلنا سواء تلك التي تلاشت وذابت أو تلك التي تتشكل في قعر القدر، كما توجد مواد محفزة تذيب بعض المشاكل وتجعل مشاكل أخري تطفو علي السطح في ذات الوقت. وقد خاب ظن هذا الطالب كثيرًا إذ وجد أن ساكني بيركلي لا يعرفون هذه الاستعارة الكيماوية، " فمن يرددون هذه العبارة يتعاملون مع المشاكل ويتصورونها علي أنها ألغاز يجب الوصول الي حل نهائي لها ولا تظهر مرة أخري أو لا تعاود إقلاقهم. ويعلق الكاتبان علي هذا " تقول الاستعارة الكيماوية: إن المشاكل ليست ذلك النوع من الأشياء الذي يختفي إلي الأبد ومعالجتها باعتبارها أشياء تنحل بصورة نهائية سلوك يدل علي الحماقة، وأن نحيا من خلال الاستعارة الكيماوية هو أن نقبلها علي اعتبار أن المشاكل لا تختفي بالمرة، فعوض توجيه طاقاتك نحو حل مشاكلك بشكل نهائي، عليك أن توجهها نحو إيجاد المحفزات التي تجعل مشاكلك الملحة تنحل لأطول زمن ممكن دون أن تطفو المشاكل الأسوأ علي السطح. وبهذا نعتبر ظهور المشكل من جديد ظهورا طبيعيا وليس إخفاقا من جانبنا في إيجاد الطريقة الصحيحة لحله. فأن تحيا بواسطة الاستعارة الكيماوية يعني أن لمشاكلك نوعا من الحقيقة مختلفا عندك. فالحل المؤقت سيكون إنجازا وليس إخفاقا وستكون المشاكل جزءا من النظام الطبيعي للأشياء وليس اضطرابا يجب معالجته. وعموما فالكيفية التي ستفهم بها حياتك اليومية وستتصرف يها ستكون مختلفة إذا كنت تحيا بواسطة الاستعارة الكيماوية ". هذا نموذج واضح يكشف كيف أن الاستعارات التي نرددها وطريقة فهمنا لها تؤثر في حياتنا، لكن أيضا بالنسبة لي حكاية الشاب الإيراني نموذج للشخصيات التي تدعو إلي الكتابة عنه وعن آخرين يشبهونه، فليس علي السطح ما يشد الانتباه، مجرد شاب معجب بعبارة " مشاكلي محلولة " لكن عندما نتوقف ونتأمل كيف يفهم العبارة وكيف يعايشها والصورة التي تهيمن عليه بسببها نجده يملك حكاية قد تكون أغني من الحكايات اللاهثة وراء الأحداث التي تضيع فيها الأشياء الأساسية التي تشكل الحياة. الاستعارة هنا صارت حدثا، لكنه حدث لا نكف عن التفكير فيه ويدعونا إلي تأمل أحداث مماثلة في حياتنا لم ننتبه إليها.