هذه النصيحة، هي حصيلة تجربة جميلة عشتها علي مدار أربعين عاما باعتباري طيارا بالخطوط الجوية، وملزما بالحفاظ علي وزني ضمن حدود صحية وطبية معينة،وإلا فقدت وظيفتي ومهنتي التي أعتز بها من ناحية، ومصدر رزقي الوحيد من ناحية أخري. لقد فزت خلال هذه الرحلة الطويلة ليس فقط لاستمراري في الوظيفة حتي بلوغي سن التقاعد، لكنني فزت أيضا بحالة صحية ونفسية عظيمة لحفاظي المستمر علي وزني "حتي الآن". هذه كانت مقدمة لتجربة شخصية ورصدًا للكثير من المشاهدات وتجارب الآخرين وهو ما دفعني لكتابة السطور التالية: تتخلل حياة الإنسان بعض المواقف التي تستعدي أن يتخذ قرارا حاسما بالسير في واحد من طريقين، وكلما كانت كفتا الاختيارين متقاربتين في الإيجابيات والسلبيات، كلما تعثرت عملية الاختيار. أما إذا كان أحد الاختيارين متفوقا عن الآخر بشكل مؤكد، فإن قرار الاختيار وحسم الأمر يصير شيئا منطقيا وسهلا للغاية، وهو ما ينطبق علي موضوعنا (شيئان لا يجتمعان). فالشيء، الأول أو الاختيار الأول هو متعة الأكل والافراط في الطعام. أما الاختيار الثاني الذي يستحيل أن يجتمع مع الاختيار الأول فهو الاستمتاع (بالصحة واللياقة البدنية والنفسية والشكل) مجتمعة. من الواضح أن تفوق الاختيار الثاني هو أمر بديهي للغاية، ليس فقط لفوائده الجمة وإيجابياته المتعددة، بل لاستحالة الجمع بين هذين الطريقين المتناقضين من وجهة النظر العملية والقائمة علي المشاهدات المتعددة وتجارب الآخرين. ومن سوء الحظ أن معظم الأطعمة الشهية التي تحتوي علي الدهون والنشويات والسكريات هي المسئولة وحدها عن زيادة الوزن وكارثة البدانة، بالتالي فإن الاستمتاع بهذه الأطعمة سوف يقابله سلبيات كثيرة كالترهل والسمنة والكسل وكثرة النوم وضعف اللياقة البدنية والتخمة أي (الكثير من الأمراض التي تصيب الإنسان ومضاعفاتها)، مما قد يستدعي في النهاية تدخل الطبيب المختص الذي يضطر إلي فرض نظام غذائي صارم وثقيل الظل، يصير اتباعه أمرًا حتميا لا محالة، والتجارب كثيرة وماثلة أمامنا، مع الوضع في الاعتبار أن الأطباء النابهين في مجالي التغذية والغدد يشكلون ندرة في هذا التخصص. ومع ذلك فقد أثبت الواقع أن معظم أنظمة الحمية أو "الرجيم" غالبًا ما يكون مصيرها الفشل والإخفاق مهما كانت حرفية الطبيب المختص، فهو لا يستطيع مراقبة مريضه كل يوم لكي يجبره علي تنفيذ هذا النظام الغذائي المتشدد، والخالي تقريبًا من الدهنيات وملح الطعام والسكريات والنشويات، وهي العناصر التي تجعل للطعام مذاقا ممتعا. ولذلك يظل دور الطبيب مبتورًا للغاية، ما لم نساعده بالإرادة القوية والتضحية بمتعة الأكل ومقاومته، والوقوف فوق الميزان وأمام المرآة كل صباح. أما إذا ارتكبت هذا الخطأ الشائع وأردت أن تبتكر اختيارًا ثالثًا يقوم علي الجمع بين الاختيارين، رغبة في "التكويش" والاستئثار بطرفي هذه المعادلة، وتوهم اقتناص إيجابيات كلا الاختيارين في وقت واحد، فسوف يؤدي هذا الابتكار إلي النتيجة الحتمية والمعروفة، وهي الرِدَّة إلي النهم بكل سلبياته وأضراره الفادحة. ولقد حذر الرسول عليه الصلاة والسلام منذ أربعة عشر قرنا من الزمان من ملء المعدة بالطعام، حيث قال هذا الحديث الرائع والمتحضر فأصاب الهدف ببساطة ووضوح وإيجاز. (ما ملأ ابن آدم وعاءً قط شرًا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه). بما يعني أن ملء المعدة بالطعام هو أمر يصل إلي درجة الشر والأذي الشديد، وأن الأساس أو الأصل هو أن يتناول الإنسان خلال مسيرة الحياة أقل القليل من الطعام، الذي يكفيه لممارسة حياته الطبيعية. أما الاستثناء الذي عبر عنه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بكلمتي "فإن كان" أي إذا كنت محبا للأكل، فينبغي ألا تملأ معدتك بأكثر من ثلثها والثلث الثاني للماء، والثالث لكي تعطي الرئة سعة للتنفس براحة ويسر. من غرائب الأمور أننا "شطار" للغاية في التقاط بعض الأحاديث النبوية الشريفة وحفظها وترديدها، بل وعظ الغير بها، لكننا غالبا ما نتراجع عند تطبيقها علي أنفسنا، وكأننا لا حفظنا ولا رددنا ولا وعظنا. في الجانب الآخر، هناك ثواب يمثل دافعا قويا لمن يريد تحجيم رغبته الملحة في الأكل، وهو التبرع بتلكفة نصف وجباته اليومية إلي هذا الإنسان الذي ضاقت حالته المعيشية، ولا يستطيع أن يتناول أكثر من وجبة هزيلة كل يوم. بذلك ينقذ نفسه من التخمة وتداعياتها، وفي نفس الوقت ينقذ هذا الإنسان الذي يعاني من العنت وضيق ذات العيش والجوع والمرض، ويكسب ثوابا عظيما عند الله، وهذا بجانب متعة الزكاة الروحية العظيمة، التي لا تضاهيها أي متعة أخري وخاصة إذا ذهبت إلي من يستحقها. ومن ناحية أخري لا يفوتنا أن نؤكد أنه لا يمكن أن نطمئن لما يقال إن الإنسان يستطيع أن يأكل ما يشاء وبأي قدر، ثم يتناول بعض الأدوية لإذابة الدهون أو إعاقة أجهزة الاحتراق داخل الجسم أو تدبيس المعدة، وشفط الدهون بواسطة هذه العمليات الجراحية البغيضة، فالمنطق والفطرة السليمة تجعلنا نجزع وننفر من هذه الأمور المخالفة لطبيعة الإنسان، ولا تعدو أن تكون للأسف الشديد إلا مغامرات طبية فاشلة وغير إنسانية، وطريقة مبتكرة لجمع الأموال علي أنقاض هؤلاء الضحايا والمغامرين.