سألني الشاب ما هو سر حيويتك وأنت تطرق باب العقد السابع من العمر، ولم تستطع شعرة بيضاء واحدة أن تخترق شعر رأسك، أجبته هي نصيحة أمي - العمر الطويل لك - أن ألقي الهموم خلف ظهري، ودرس أبي المتكرر - متعه الله بالصحة وهو يبدأ عامه الثاني بعد المائة - كلما ضبطني مهمومًا، لا تدع المشكلة تدخل إلي داخلك تعامل معها من الخارج وإن لم تجد لها حلاً فدعها للزمن فهو كفيل بحلها امتعض الشاب مستنكرًا: معني هذا أن تعيش لنفسك ولا تتفاعل مع من حولك؟، قلت له هناك فرق بين أن تقدم النصيحة وبين أن تدفع أنت ثمنها من أعصابك وقلبك وسلامتك، لم يسترح لرؤيتي وتركني ومضي. واصلت مشوراي إلي السنترال لأدفع فاتورة التليفون، ومعي زوجتي التي تصغرني بخمس سنوات بينما هي تصر علي أنهم عشر سنوات، ورغم هذا كان كل من يقابلنا يبادرنا بالسلام: أزيك يا عمو.. عاملة ايه ياتيتة، أبتسم أنا وتمتعض هي، وجدنا طابور الفواتير طويلا فقد تعودنا أن ندفع الفاتورة آخر يوم، حجزت مكاني في الطابور وجلست بالقرب منه، اخذتني غفوة رأيت فيها حلمًا - خير اللهم اجعله خير - أن صالة دفع الفواتير صارت أكثر اتساعًا وأكثر نظامًا وهدوءًا ونظافة، يدخل إليها المرء ليأخذ رقما بدوره من ماكينة بجوار الباب وسرعان ما ينادي عليه من ميكروفون هادئ ليقف أمام شباك من نحو عشرين شباكًا ويجد نفسه أمام موظف أنيق يبتسم في وجهه ويتحمل اسئلته واستفساراته وتنتهي عملية السداد في أقل من دقيقتين، لكن كان هناك طابور ممتد يصطف فيه أناس من مختلف الأعمار والمراكز الاجتماعية يبدو من هيئتهم أنهم من علية القوم، دفعني الفضول لأن أقترب منهم، معقولة كل هؤلاء النجوم في طابور واحد، ومالهم ومال الطوابير، تطلعت إلي اللافتة فوق الشباك "مكتب تجديد الثقة" يتقدم من يقف أمامه ومعه بطاقة ممغنطة الكترونية مسجل عليها سيرته الذاتية والوظيفية، تجدد صلاحيتها بشكل دوري، يضعها فيما يشبه آلة صرافة البنك، ليخرج معها تقريرًا مصحوبًا برسالة صوتية، تقول "تم التجديد" أو "عفوًا.. لقد نفد رصيدكم"!!. تقدم الرجل ووضع بطاقته فجاءه التقرير.. كيف استطعت أن تخون الثقة التي وضعها فيك أبناء دائرتك، الذين لم يروك إلا في حملتك الانتخابية وظهورات متفرقة في سرادقات العزاء حتي المجلس كنت تحضر لتوقع بالحضور ثم تمضي يومك لتقتنص تأشيرة بشالهة أو قطعة أرض أو قرار بعلاج علي نفقة الدولة تترجم كلها في نهاية الدورة إلي أرقام يحملها لك كشف حساب البنك، وعندما تقف في جلسة ما يعلو صوتك منددا بالفساد لتخرج صحف اليوم التالي لترسل رسالة ملغومة تقول لأبناء دائرتك أحسن من الشرف مفيش، وتحرص علي هذا في الأسابيع القليلة التي تسبق انتخابات جديدة.. عفوًا.. لقد نفد رصيدكم. تلاه آخر حمل تقريره سطورًا قليلة.. ما هذا التناقض، تحرص علي أن تغطي مكتبك بملصقات تتحدث عن الفضيلة تذكرك بعاقبة المتقين وتنذر المواطنين بالويل والثبور وعظائم الأمور لضلالهم وتقصيرهم، بينما مصالحهم عندك معطلة ولا تتحرك إلا لمن يفطن إلي ذلك الدرج المفتوح أو عبر من يملك مفاتيحه، وتشكو لمن حولك من المرتب الذي يقصر عن تلبية الحاجيات الأولية للحياة.. وما لم يقله التقرير أفدح.. لكن الرسالة لم تتغير.. عفوًا لقد نفد رصيدكم!! أما الثالث فلم يكن واحدًا بل اثنيين يبدو من ملابسهما أنهما يتصلان بالفضيلة والقداسة، توقعت أن يأتي التقرير ايجابيا والرسالة "تم التجديد"، فإذا بالتقرير يقول لهما كان اسلافكما يعانون من شظف العيش اسوة بأصحاب الرسالة، يعانون من عنت المنتقدين، لقولهم الحق ويدفعون الثمن عن طيب خاطر، فإذا بكما تحولان رسالتكما إلي مربع الاستثمار وأي استثمار!، تقربان الأغنياء وأصحاب النفوذ وتتأففان من الفقراء والمعوزين تعوجان المستقيم وتفصلان الحلول علي مقاس السائل وموقعه، تتقابلان بابتسامات تكاد وجوهكما أن تتشقق من اتساعها وعناق تكاد عظامكما أن تتكسر من شدتها، بينما لا تخفي رسائلكما حنقكما المتبادل حتي لو تفجر منها الشارع، تتحدثان عن حرية الايمان وتكفران من يعترض علي طرحكما، تدغدغان مشاعر العامة وتصبان الزيت علي نار الطائفية، تلبسكما يقين أن الطريق إلي الجنة والملكوت انتما بوابته، فحسبتم الاختلاف هرطقة والتفكير كفرًا، وجاءت الرسالة.. عفوا لقد نفد رصيدكما!!. كان الطابور يزداد طولاً، والواقف أمام الجهاز يحيطه حرس خاص، وضع بطاقته بثقة، ونظر إلي مساعديه الذين بادروه دون أن يسأل: كله تمام يا فندم، والبركة في سعادتكم أليس هذا الجهاز أحد أهم انجازاتكم، لم يقو عليها من جلس قبلكم علي كرسي وزارتكم، حملت سطور التقرير معاني صادمة له ولمعاونيه، قال له يا صاحب المعالي سر فشل قراراتك أنها كانت تعتمد علي تقارير مكتبية نمطية، لم تتغير منذ عصر الدواوين والنظارة، ينقصها الحس السياسي الذي يراعي الأبعاد الإنسانية والاجتماعية لها، وفي بعضها تهتم بما يعرفه الموظفون الحكوميون "التستيف" فهي مطابقة للقوانين واللوائح والتعليمات حتي لو اضافت لمعاناة الناس احمالاً ثقيلة المهم النظام والانضباط، فات عليك أن تستمع لأصحاب المصلحة الحقيقية في القاعدة العريضة ممن يتعاملون مع وزارتك، واكتفيت بتسليم أذنيك لمعاونيك ومستشاريك بشكل مطلق، فاتك أن تعود لمبادئ الإدارة التي ربما كنت تدرسها لتلاميذك: التخطيط والتنفيذ والمتابعة وتقييم الأداء وتحريك الخطط المرحلية بحسب ما يستجد في الواقع، في تكامل مع الوزارات الأخري وتحت مظلة رؤية شاملة قومية متكاملة، ونسيت أنك خادم لشعب، لا سيد عليهم، صدقت من قال لك أنك مستهدف بشكل شخصي من كل نقد يوجه لك عبر الإعلام والميديا، وأن هذا ضريبة النجاح، وجاءت الرسالة: عفوًا.. لقد نفد رصيدكم. فجأة تقدم شخص مهندم ومهيب وفي هدوء اخرج بطاقته.. أدخلها الجهاز.. لم يخرج تقرير ما ولم تأت رسالة من أي نوع.. لحظات وانفجر الجهاز، انتبهت من غفوتي علي يد زوجتي تلكزني.. قوم دفعت لك الفاتورة.. مش ها تبطل تحلم بصوت عالي.. كفاية.. عاوزين نروح بيتنا.