مضي زمن البوتاجاز بالنسبة لي ولأسرتي منذ وقت طويل وهكذا الأمر بالنسبة لملايين آخرين مثلي أنعم الله علينا بنعمة وصول الغاز الطبيعي إلي بيوتنا وهي نعمة لا يقدرها حق قدرها إلا الذين لا يزالون يعانون الأمرين بسبب أنابيب البوتاجاز والمعارك المستمرة بين الحين والآخر للحصول علي أنبوبة أو بومبة كما يسميها العامة. حينما وصل إلينا الغاز الطبيعي كان منقذا لنا من هموم ثقيلة في مقدمتها دخول وخروج غرباء لا نعرفهم إلي بيوتنا لتغيير الأنابيب فمع اختفاء الخدمة المنتظمة لتغيير الأنابيب خلقت الأزمة طائفة من المنتفعين بها تخصصوا في الوقوف بالطوابير والمزاحمة عليها أو الاتفاق الجانبي مع الموزعين علي الاستيلاء علي الأنابيب وبيعها بأسعار السوق السوداء لمن يرغب من المحتاجين هكذا انفتحت البيوت أمام هذه الفئة ومن بينهم ضعاف نفوس استغلوا ذلك أسوأ استغلال. الآن ليست لدي شكوي من الغاز الطبيعي الذي يصل إلي منازلنا بقروش زهيدة نسينا تماما تلك المعاناة الفظيعة والضغط العصبي الذي كان يركب الأسرة حين الإعلان عن نفاذ الأنبوبة والحاجة إلي غيار البومبة لذلك نشعر بتعاطف شديد مع شكوي الجمهور المسكين الذي لا يزال حتي الآن تحت رحمة أنابيب البوتاجاز خاصة أن فترات الأزمة لم تعد متباعدة بل تعددت مواسم اختفاء الأنابيب لم تعد تختفي جزئيا كما كان الحال علي أيامنا لبضعة أيام مع دخول رمضان أو حلول فصل الشتاء بل أصبح موسم الاختفاء هو القاعدة. قالت تحقيقات الصحف أن سعر الأنبوبة وصل إلي أرقام فلكية بالمقارنة بالسعر الرسمي لها وهو أربعة جنيهات يصل إلي سبعة جنيهات في الأوقات العادية أما في ظروف الأزمة فيصل السعر إلي أكثر من عشرين جنيها وفي حالة اشتدادها فحدث ولا حرج عن مبالغ تصل من ثلاثين إلي ستين جنيها وهو أعلي رقم مسجل في السوق السوداء لتداول أنابيب البوتاجاز. الثمن إذن يتحدد وفق كمية المعروض وحجم الطلب وليس في ذلك أي نوع من المفاجأة وفي حالة اختلال المعادلة فإن أحداً لا يلتزم بالسعر الجبري المدعم الذي تدفع الحكومة في مقابله عشرات الملايين من الجنيهات دون جدوي وتنطلق الأرباح الخيالية إلي جيوب المحظوظين الذين يتعاملون مع تجارة السوق السوداء. ما فائدة أن يشتري المواطن الأنبوبة بالسعر المدعم بعض الوقت ثم يدفع أضعافاً مضاعفة معظم الوقت بالإضافة إلي البهدلة في الانتظار ومخاطر التوصيل غير الآمن. في الحقيقة لدينا مشكلتان وليست مشكلة واحدة وهما مشكلة السعر المبالغ فيه علي حساب الحكومة والمستهلك في آن واحد لصالح تجارة السوق السوداء ثم مشكلة التوصيل غير الآمن سواء للمنازل أو للأجهزة المنزلية كما نري كل واحدة من المشكلتين قد ينتج عنها كوارث للمواطن لكن المضطر يركب الصعب كما يقولون فيضحي الناس بأمن منازلهم وأسرهم من أجل الحصول علي أنبوبة من السوق السوداء. الآن في ظل الأزمة يتحسر الناس علي زمن كانوا يطلبون فيه الأنابيب من المستودع بالتليفون يتساءلون لماذا تتفاقم الأزمة مع أن مناطق واسعة من القاهرة واسكندرية وبعض مدن الأقاليم قد وصل إليها الغاز الطبيعي؟ أم أن المقصود هو العودة بنا إلي عصر مواقد الفحم والخشب والحطب والكانون؟ بالطبع لا يمكن العودة إلي الوراء لأن هذه المواد أصبحت غير متوافرة حتي الكيروسين الذي كان يستخدم في المنازل قبل انتشار البوتاجاز لم يعد متوافرا هو الآخر. أما عن الغاز الطبيعي فهو الآن حلم الأسر التي تعاني من نقص البوتاجاز وهذه الأسر مستعدة لأن تصوت في الانتخابات المقبلة لمن يوصل لها الغاز الطبيعي وبالعكس هي مستعدة لأن تحجب ثقتها عمن كان السبب فيما تعانيه من جراء الأزمة. المشكلة هي أن التقدم في توصيل الغاز الطبيعي إلي المنازل أصبح بطيئا للغاية كما أن تكلفة التوصيل أصبحت باهظة وتتزايد باستمرار بما يوحي بتخلي الحكومة عن مشروع توصيل الغاز الطبيعي إلي البيوت كمشروع قومي فيه مصلحة عامة ومنفعة للشعب لكنه للأسف يقضي علي مصلحة خاصة هي تجارة الأنابيب في السوق السوداء فهل بلغ لوبي تجارة السوق السوداء في البوتاجاز بدءاً من الاستيراد إلي التعبئة إلي التوزيع درجة من القوة لابطاء أو إيقاف مشروع توصيل الغاز الطبيعي إلي البيوت؟ مصر ليست دولة منتجة للبوتاجاز ولكنها تنتج الغاز الطبيعي مصر تخصص مبالغ طائلة لدعم أسعار البيع لمستهلك البوتاجاز الذي تستورده من الخارج ولا تستطيع الموازنة العامة ملاحقة النمو في الاستهلاك بزيادة المبالغ المخصصة للدعم الإجراءات المؤقتة لحل الاختناق الحالي التي اتخذتها الحكومة لن تصمد طويلا لأن المستهلك ينمو ولا سبيل إلي إيقافه. يبدو من شكل المعادلة ومحتواها أن الحل الدائم يحتم التخلي عن دعم أسعار البوتاجاز حتي ينتهي تسرب الأموال إلي تجارة السوق السوداء ولما كان ذلك قاسيا للغاية علي معظم المستهلكين البسطاء فإن الحل الأكثر قبولا ومعقولية هو توجيه الدعم أو جزء منه لتوصيل الغاز الطبيعي إلي المنازل وليس إلي سعره. أعتقد أن زيادة بسيطة في ثمن استهلاك الغاز الطبيعي الذي ينعم به جانب من المواطنين الآن لصالح التوسع وبسرعة في توصيله إلي بقية المواطنين هو العدل بعينه وهو الحل الأمثل من وجهة نظري ولو كره المنتفعون من السوق السوداء.