لم يستسلم الروائي حمدي أبو جليل لما رآه تقصيرا من الهيئتين الرسميتين: العامة لقصور الثقافة والعامة للكتاب، في توزيع مجموعتيه الأوليين: "أسراب النمل" عام 1997، و"أشياء مطوية بعناية فائقة" عام 2000، فقرر أن يتخذ خطوة إيجابية من جانبه في إعطاء هذه القصص حقها من الوصول للناس، فقام بإعادة نشرها مؤخرا عن دار "ميريت" بعنوان "طي الخيام"، بعد إجراء بعض التعديلات، سواء من حذف بعضها أو إعادة صياغة البعض الآخر. لم يستسلم الروائي حمدي أبو جليل لما رآه تقصيرا من الهيئتين الرسميتين: العامة لقصور الثقافة والعامة للكتاب، في توزيع مجموعتيه الأوليين: "أسراب النمل" عام 1997، و"أشياء مطوية بعناية فائقة" عام 2000، فقرر أن يتخذ خطوة إيجابية من جانبه في إعطاء هذه القصص حقها من الوصول للناس، فقام بإعادة نشرها مؤخرا عن دار "ميريت" بعنوان "طي الخيام"، بعد إجراء بعض التعديلات، سواء من حذف بعضها أو إعادة صياغة البعض الآخر. فللأمر أبعاد أخري متعلقة برغبة أبو جليل في تسجيل ثقافة مجتمعه البدوي بالفيوم، التي يراها في طريقها للزوال، ورغم أنه يعتبر نفسه إنسانا شبه، ولا يؤمن أن عليه دورا في حمل هموم وقضايا غيره، أو السعي لتغيير العالم، فإنه -ودون أن يدرك- يجد نفسه مطالبا بتسجيل حياة الناس وفنونهم في هذا المجتمع، من خلال التركيز علي نفسه كبدوي يعيش في المدينة، مدفوعا -كما يقول- بالاندهاش من ثقافتهم الغنية بالفنون والحكي والغناء والشعر، ولهذا طعّم القصص ببعض الأشعار والأغاني والأمثال الشعبية البدوية، دون أن يكثر منها خوفا من أن تقلل ترجمتها إلي الفصحي من قيمتها. يقول أبو جليل: "سعيت لتسجيل ثقافتهم، لأنني أري أن وتيرة انقراضها تسير بسرعة، خاصة أنهم أكثر الناس استعدادا للتخلي عنها، فالبدو لا يؤمنون بالمقدسات ولا بالأماكن، وليسوا متماسكين فيما بينهم، علي عكس أهل النوبة مثلا، كما أنني انتقلت من مرحلة محاولة اكتشاف هذه الثقافة، إلي مرحلة محاولة فهمها". قد يبدو كلام أبو جليل السابق متعارضا مع حس السخرية المسيطر علي المجموعة، ففي قصصها التي يسردها بلسانه يسخر من "عنطزة" البدو ونظرتهم الدونية للفلاحين، ويسخر من فقره برغم غني قبيلته، ومن طيبة البدوي التي تتحول أحيانا إلي نوع من السذاجة، ومن اضطراره للاقتراض من الآخرين وهو البدوي مرفوع الرأس أو الذي يفترض فيه ذلك، لكن أبو جليل ينفي وجود مثل هذا التعارض لأنه يؤمن، بأن السخرية ليست نوعا من الانتقاد وإنما نوع من التعبير عن الحب، فضلا عن كونها وسيلة للنظر بموضوعية إلي الأشياء عن طريق الاقتراب منها. وفكرة رغبة أبو جليل في تسجيل مفردات ثقافته البدوية وسخريته في الوقت نفسه منها، تثير قضية الازدواج، وهي القضية التي طرحها في آخر قصص المجموعة المعنونة ب"بطل وحيد" وجاء فيها: "أتساءل جادا عن الأسباب المنطقية المختفية وراء شعورهم الدائم بالعظمة والسمو، بينما تسكن داخلي في سلام خيمة بدوية كاملة"، وقد تعجب في نفس القصة من ازدواجية جده "عولة"، يقول أبو جليل: "كنت في البداية أعتقد أن الازدواجية خصيصة بدوية، لكني بعد فترة اكتشفت أن الازدواجية حل وخصيصة اجتماعية جيدة بالنسبة لرجل بدوي يعيش في مجتمع مختلف تماما عن ثقافته ويسعي لتحقيق نجاحه فيه، لكنه في نفس الوقت يحمل خيمة بداخله يحاول الحفاظ عليها، واكتشفت أيضا أن الحياة كلما ازدادت مدنية كلما اضطر الإنسان للاتصاف بالازدواجية، لأنها تجعله أكثر تسامحا وقبولا للآخر". ولأن ثقافة القاهرة التي يقيم فيها أبو جليل تختلف كلية عن ثقافة مجتمع بدو الفيوم الذي ينتمي إليه، فكانت زياراته في البداية للنجع تصيبه بالارتباك، ويضطر لأن يغير من أدائه، كأن يقص شعر رأسه الطويل، لكنه وبعد فترة انتبه إلي عدم وجود تناقض حقيقي فإذا كان هناك محاط بالشعراء والمغنيين، فإنه وجد مثلهم يحيطونه في القاهرة، يقول: "أنهت فنونهم حالة الغربة التي كانت تصيبني حينما أنزل لزيارة النجع، خاصة وأن الفيوم هي مركز إنتاج الأغاني البدوية، حتي لتجد أن شرائط كاسيت مطربي البدو، ومنهم من يأتي من مرسي مطروح يتم إنتاجها وتسجيلها في الفيوم، وربما كونهم بدو أميل للفلاحين، هو ما يجعلهم يتمسكون بهذه الفنون". في المجموعة، امرأة تسمي "خود"، تدخل علي اجتماع رؤساء قبائل البدو السنوي بشعر مسترسل علي أكتافها، وتخبرهم أن ابن عمها الذي زوجوها له بدون رغبتها، لا يمكنه القيام بواجباته الزوجية ، وشبه أبو جليل رد فعل شيوخ القبائل حينها بمن ينتظر الإعدام، فرغم تنازل هذا المجتمع عن بعض عاداته وخصائصه إلا أنه لايزال محافظا علي عادة تزويج البنات من نفس القبيلة، ولا يخرج علي هذه العادة سوي الأغنياء الذين يفعلونها وهم "مكسوفين"، وهذا لا يعني أن المرأة لا مكانة لها هناك، بالعكس، يقول أبو جليل: "المرأة في هذا المجتمع هي قائدة البيت، وإن كان بشكل غير مباشر، وقد جعلتني القصص المتداولة عن النساء في ذلك المجتمع أؤمن أن مسألة اضطهاد المرأة هذه وهم، وأنها هي المسئولة عن موضوع حقوقها، ولعل الكثيرين لا تصدقون أن عائلتي قامت علي أربع نساء، أرغب دائما في الكتابة عنهن: فهناك التي كونت ثروة طائلة واشترت الأراضي بعد ممارسة عمليات بسيطة في التصنيع والبيع، وهناك التي تمثل أسطورة في صنع الكحل، وحينما تزوج ابنها من فلاحة أمرت أولاد عمه بضربه ثم ضربته هي الأخري ليطلق زوجته". وفي المجموعة يبحث أبو جليل عن الأب، أي أب يقول له "باتي" أو "بابا" أو "أبي"، ففي القصص هناك الأب شيخ القبيلة الذي يدفع الدية لأولاد علي صاغرا، وهناك الأب الذي يعمل خفيرا ويخجل من هذه المهنة، وهناك رئيس العمال الذي يرغب الراوي في قول كلمة "باتي" له، وهو ليس بحثا متعلقا بالكتابة الأدبية فقط، فأبو جليل كان يبحث في الحقيقة عن أب له، بعد وفاة والده مبكرا، ويقول: "فكرة البحث عن الأب داخل المجموعة، ترجع لمشكلة شخصية خاصة بي، ففقدي لأبي وأنا صغير أفقدني الثقة بنفسي وربما استمر ذلك الشعور حتي الآن، نعم قامت أمي بتربيتي وفق القواعد، ونشأت وسط أعمام وأخوال كثيرين، لكن صراعاتهم الداخلية كانت مميتة وقاسية، وأتذكر أنني كنت أضرب الولاد في المدرسة حتي يقولوا هنشتكيك لأبوك، وكنت أحزن بشدة إذا قالوا هنشتكيك لأمك، لكني حينما كبرت وتزوجت وأصبحت أبا، تخففت من بعض وطأة فقد الأب". في حفل توقيع المجموعة الذي أقامته دار "ميريت" منذ أيام، تحدث أبو جليل عن شكل جديد للأدب الطليعي الذي تحدث عنه قائلا: "كان الأدب الطليعي هو ذلك الأدب الذي سمي نفسه مخلتفا، أو الراغب في إحداث شيء مختلف أو مرفوض من المؤسسة الرسمية، وكان كتابه يجتمعون لتشكيل جماعة أدبية تصدر أعمالها فيما سمي بمطبوعات مثل "جاليري 68" و"إضاءة 77" و"الجراد" وغيرها، لكن الآن ومع تنوع المجال واتساع الحياة انتهي تابوه التجديد نفسه، ولم يعد الأديب مهووسا بفكرة التجديد ولكنه يبحث عن الطريقة التي يعبر بها عن نفسه، وهو ما خلق زخما إبداعيا وكتابات لم يعد منتجوها يقفون علي مناطق عالية، أو يسعون لكشف الفساد أو ممارسة دور تنويري ما، وإنما أصبحوا يحتلون مكان المواطن البسيط الذي يحكي عن أشيائه وتجاربه بلغة تخففت كثيرا من أدبيتها. ولدي حمدي أبو جليل طموح يرغب في تحقيقه، هو ببساطة أن يكتب رواية محكمة كتلك التي كان يكتبها نجيب محفوظ، رواية تحقق لك إشباعا كاملا، رواية يمكن كتابة النهاية حينما تنتهي، وما الذي يمنعك إذا؟، يجيب: "يبدو أن عندي مشكلة في كتابتها، لكن يمكن أيضا لأن العالم الذي نعيش فيه لم يعد نفس العالم المنظم والواضح الذي كان يعيش فيه محفوظ، الآن لا يمكنني الجزم بأن تلك الشخصية شريرة من عدمها، الآن لا أعرف هل الفلسطيني الذي فجر نفسه إرهابي سيخيفني ما فعله؟، أم مجاهد ضد الاحتلال؟". أما إذا حصل أبو جليل علي جائزة "البوكر" العربية فسيكون "مبسوط فقط بالقرشين"، فهي في وجهة نظره أو أي جائزة أخري لا تعني سوي قيمتها المادية، فضلا عن أنه يراها تبتعد عن معترك وطموحات الرواية المصرية الجديدة وتتجه نحو الروايات الضخمة، أو المطابقة للمعني الشائع والراسخ للرواية.