مارشيللو ماستروياني (جويدو انسيلمي) في فيلم "ثمانية ونصف" إخراج فلليني (1963) تحول إلي دانيل داي لويس (جويدو كونتيني) في الفيلم الجديد "تسعة" إخراج روب مارشال (مخرج شيكاجو ومذكرات جيشا) والذي يرشحه البعض لعدد كبير من جوائز الأوسكار. تختفي من الإعادة معظم ملامح السينما الفللينية، تتراجع تماماً روح الكرنفال وجنونه المميز، ويحل الاستعراض علي طريقة برودواي محل السيرك والمسرح. يخفت صوت السخرية اللاذعة المقرونة بولع شديد بالنساء التي يلصقها المايسترو بشخصيات أفلامه، ويتواري الهاجس الاستبطاني الذي يبرز بذاتية شديدة في أفلام فلليني ليؤكد غموض الأفعال وردود الأفعال، خروجها عن المألوف والمقبول، نموها من داخل منطقة الأحلام والهلاوس. من فيلم إيطالي إلي فيلم أمريكي، من حالة اليأس والبحث المضني التي يشعر بها فنان ملحد إلي حالة الخوف والترقب التي تحل علي فنان مؤمن، أخلاقي حتي النخاع. مارشيللو ماستروياني بلا أم في فيلم فلليني، دانيل داي لويس يتعلق بيد أمه (صوفيا لورين عجوز شمطاء من البوتوكس لا تليق بها التحية) طوال الفيلم. الخيانة ليست مبررة لدي فلليني، هي واقع لا حاجة لتبريره أو الاعتذار عنه، يتم تبريرها بسذاجة والاعتذار عنها بأشكال متنوعة في فيلم روب مارشال. في فيلم فلليني الأم ليست شخصية بالمعني المتعارف عليه. نساء كثيرات يعتنين بجويدو الصغير ويقمن بوظيفة الأم حتي عندما يكبر الطفل ويصبح تعبيره عن مخاوفه وحالات نزقه أمرا غير محتمل لكل من تسول لها نفسها أن تقوم بتلك الوظيفة. الأم شخصية محملة بنزعة أخلاقية، وجودها يعني الأمان والاستقرار والتضحية والفهم العميق، وجودها في فيلم روب مارشال يطمئن المتفرج علي أخلاق البطل، وعندما يخون البطل زوجته يتم تبرير الخيانة بنفس النزعة الأخلاقية، احتياج للفهم، أزمة الفنان، ثم يأتي التراجع عن الخطأ، تبريره، وعودته للعمل في الاستوديو لتغفر له زوجته. تزداد المسألة تعقيدا لأن فيلم "تسعة" هو إعادة إنتاج وصياغة أمريكية للمسرحية الموسيقية المستقاة من الفيلم الإيطالي الشهير... إعادة صياغة ليس من واقع حياة فلليني كما كتبها أو كما أخرجها في أفلام استلهم فيها سيرته الذاتية (مثل فيلم "المقابلة") ولكن كما أداها مارشيللو ماستروياني وكما صممها ماريو فراتي للمسرح الإيطالي وكما تخيلها المخرج الاستعراضي في برودواي في الثمانينيات. لذلك، وبعد مشوار طويل، لا يبقي من روح فلليني سوي الهيكل: انتظار الوحي، العلاقات النسائية المتشابكة، الأحلام والذكريات. تتوه اللحظة الأولي ويخفت بريقها. لحظة بعينها، بعد إخراج ثمانية أفلام ونصف، منها ليالي كابيريا ولا سترادا ودولشي فيتا، يرصدها فلليني بعد عشر سنوات من العمل المتواصل...عندما يصطدم بالحائط. عندما يحل عليه الصمت، ويصيبه الشك، ويقتله الفراغ. لا شيء، لا وحي ولا فكرة تصلح لفيلم جديد...عامان كاملان من البحث ومحاولات تفشل وتستمر للدخول في الكتابة أو العودة إليها بلا طائل، سوي ربما، تحويل لحظة اليأس لسينما. يلتفت البطل لنفسه ويغرق فيها كأن كل من حوله مرهون به، بحالة عجزه، وبأسئلته. يستبطن مواطن الضعف ويسخر منها، يتذكر مشاهد من الطفولة من عصيانه القديم ضد الكنيسة، ضد الطبقة المتوسطة، يكتب من واقع العجز عن الكتابة فيلما يصوره باللونين الأبيض والأسود. يضرب بالواقع عرض الحائط. يشطح ويعود. لا تعنيه فقط قصته الصغيرة، حياته، علاقاته الغرامية، صراعه مع الورق عند كتابة سيناريو فيلم، تعنيه أيضا حالة الحصار التي يشعر بها بطله بعد الانتهاء من عمل ناجح وقبل الدخول في عمل جديد. يعنيه ذلك الفراغ الموحش، تلك التساؤلات التي لا طائل منها، أحلام اليقظة التي تهاجمه بلا سابق إنذار وتتحول لحياة أمام عينيه المفتوحتين علي اتساعهما. يحيا في الحلم لأنه يراه كسينما. يراه بعين المستقبل كما سيكتبه وكما سيخرجه. هوس حقيقي بالأبيض والأسود، كهوس الأحلام وشطحاتها. في الفيلم الجديد، يتحول الحلم العاري من المنطق لحلم يسهل تفسيره. روب مارشال عينه علي المتفرج الأمريكي، يفتح له المندل ويقرأ الودع ويؤكد بعد تفكير عميق أن الزبون أمامه سكة سفر. ربما ينقذ أداء دانيل داي لويس الفيلم من الترهل الفني: وجه مهموم ولكنة ساخرة وانحناءة مميزة في الكتف تضفي علي الشخصية نوعا من الرقة والهشاشة. هيئة طائر مقصوف الجناح، تثير الشفقة، خاصة في علاقته بأمه وزوجته. تقوم بدور الزوجة ممثلة تتمتع بحضور جذاب وعينين رائعتين هي ماريون كوتييار (بطلة "الحياة الوردية") التي تحل محل أنوك إيميه (لويزا في فيلم فلليني) كأفضل اختيار يقع عليه المخرج في المجمل. تعود للشاشة ابتسامة أنوك إيميه العذبة، الملتبسة، ابتسامة بين بينين، فرح وقلق دفين، وتعود أيضا نظرة عينيها الوثابة، عينان تترقرقان بدموع غير مرئية. وربما أيضاً تتدخل بعض الاستعراضات وترفع من قيمة الفيلم جماهيريا. لكن البعض يصيبه الإحباط لأن تصميم الاستعراضات لا يختلف كثيرا عن المعتاد في أفلام الثمانينيات الاستعراضية الأمريكية، ولا يرقي لما قدمه مارشال من قبل في فيلم "شيكاجو". الناس يتذكرون أن سيناريو "شيكاجو" شارك في كتابته للسينما وصمم رقصاته واحد من أعظم مصممي الرقص الأمريكيين، بوب فوس (مخرج فيلم "كباريه" و"كل هذا الجاز"). أما فيلم "تسعة" فقد فشل في معظم اختياراته الراقصة التي جاءت تقليدا مسرحيا بلا أدني إبهار سينمائي، باستثناء رقصة السينما الإيطالية التي تؤديها كيت هدسون وتعيد للأذهان جمال اللونين الأبيض والأسود. وكما هو متوقع ستتهافت جوائز الأوسكار علي الفيلم. ماكينة الدعاية تقوم باللازم لتوجيه وتحديد الذائقة العامة وصورة روب مارشال كمخرج الروائع مازالت حاضرة في الأذهان. يبقي أن من يستمتعون اليوم بقسوة وجنون فلليني في "ثمانية ونصف" لن يخدعهم منطق وفهلوة روب مارشال في "تسعة".