رحلتان شمال وجنوب مصر كان لهما أثر كبير علي زيارتي الأخيرة. رحلة عمل للإسكندرية لتوقيع اتفاقية تبادل طلابي بين جامعة أوتاوا بكندا وجامعة الإسكندرية. ورحلة استجمام للأقصر وأسوان بصحبة عدد من الأصدقاء المصريين واللبنانيين المقيمين في كندا. تصل السيارة بقدرة قادر وعلي الرغم من جهلي بمسالك ومداخل الإسكندرية، إلي الكورنيش والبحر، فجأة... يأخذني المشهد كأني في قاعة عرض سينما. نظرتي المشبعة بتراب الطريق الصحراوي تغرق في زرقة الماء والسماء وفي رحابة الأفق وصفائه. تنحسر الهموم وأشعر بالهمة والنشاط وكأن مهمتي التي لم تبدأ بعد قد انقضت علي خير. أمي بصحبتي، تتحدث طوال الطريق. أنصت لحكاياتها وأرد باقتضاب. لا أحد يباريها في الحكي ولا في القدرة علي تزيين أي حكاية مهما كانت بسيطة بالتفاصيل الدرامية. أمام ظهور البحر المفاجئ تفلت منها كلمة "الله..." ممطوطة تمتد بعرض الكورنيش كله. يروح تعب الرحلة وتبقي رائحة البحر المنعشة ونحن نلف ونعود في اتجاه الفندق فيصبح الشاطئ عن يسارنا. ننزل علي أحد أجمل الفنادق العريقة بالإسكندرية، ونحجز غرفة تطل علي شساعة البحر، تدخلها أمي ولا تغادرها إلا صباح اليوم التالي للإفطار والتجول في المدينة. أترك أمي في مواجهة البحر وأذهب لموعدي مع عميد الآداب، د. أشرف فراج. التقيته في مونتريال قبل عدة أسابيع وصارت صداقة. بهرني نشاطه وحديثه عن التجديدات التي يحلم بإدخالها علي الكلية وأعجبني وعيه بضرورة تسيير العمل بعيدا عن التعقيدات الإدارية وتشجيعه للأساتذة من الشباب للانخراط في إدارة الأنشطة الجامعية. استقبلني بحفاوة أخجلتني، وقدمني بفخر لعدد من الأساتذة والعاملين بالكلية. الناس جميعا ينظرون إلي بانبهار أكاد أخمن مصدره، يزيد منه طريقة احتفاء العميد بي، وهو من نفس جيلي. غادرنا مكتبه وتوجهنا للقاء د. هند ممدوح رئيس جامعة الإسكندرية، أول سيدة ترأس جامعة في مصر. كلما تقدمنا خطوة في الكلية، يتوقف الناس لتحية العميد وضيفته. يتعامل مع الجميع ببساطة ويرسل ابتسامة مطمئنة للطلاب والزملاء والعاملين، رجالا ونساء، شبابا وكهولا. يقدمني للجميع ولسان حاله يقول نحن فخورون بك. استقبلتنا رئيس الجامعة بابتسامة رقيقة وانصتت باهتمام لملخص بنود الاتفاقية وطرحت عددا من الأسئلة وأبدت اقتراحات جديدة للتعاون ثم وعدت بالنظر في الأوراق في أقرب فرصة. غادرت مكتبها بصحبة العميد د. أشرف فراج وكلي ثقة في إمكانيات التغيير الكامنة في مصر وفي أن الدور الفعال والحقيقي للمثقف المستنير يبدأ دائما من الجامعة. نفس المشهد يتكرر بتنويعات مختلفة في الصعيد. وصلنا بالطائرة لأسوان ومنها بطائرة أخري لمنطقة أبي سمبل، ومن المطار حملنا الباص للمعبد. ثم سرنا علي الأقدام مسافة كبيرة قبل أن نصل إلي المعبد. تغسل مياه بحيرة ناصر أعيننا من حر ورمال الصحراء، فجأة وبلا مقدمات يسفر الجبل عن بحيرة، ويدير المعبد المهيب وجهه باتجاه الماء العاكس لآشعة الشمس والتلال المحيطة، خزان حرارة الجنوب. سفينة تحملنا من أسوان إلي الأقصر. في الطريق نتوقف عند معبد كوم أمبو ومعبد إدفو. نعبر من سفينة لسفينة حتي نصل إلي البر، سبع سفن ترقد بموازاة الضفة. المدخل إلي المعبد تم تجديده. الأسواق تبيع نفس المنتجات الرخيصة علي ضفاف النهر، أو حول مدخل المعبد. السائحون يقبلون عليها، يساومون، يشترون جلابية بعقال، تمثال حورس، منديل رأس بالترتر والخرز. كل شيء هنا يبهر ويدهش. الأقصر في ذاتها مفاجأة بكل المقاييس. لم أزر المدينة منذ عشرين عاما. تحولت من مدينة صغيرة ذات طابع قروي لمحافظة باهرة عامرة. تحسنت أحوال الكورنيش والسوق وزادت الفنادق واتسعت الطرق المؤدية للمناطق الأثرية (الطريق لتمثالي ممنون مثلا) وبدأ العمل في مشروع طريق الكباش الواصل بين معبدي الكرنك والأقصر. هدمت البيوت المحيطة بالكرنك والتي كانت تقف بين المعبد وبين النيل وتحولت الأرض الفضاء لساحة مهيبة مزروعة بالنخيل ومحاطة عن بعد بالمحال والبازارات، وفي المستقبل القريب يصبح الكورنيش نفسه مخصصا للمشاة فقط. الكل يتحدث بفخر عن ما آلت إليه المدينة ولكن الكل يذكر بغضب أن ما حدث تم علي حساب الأهالي الذين اضطروا للتنازل عن أملاكهم وبيوتهم بلا تعويض. يقول السائق الذي اصطحبني للمطار إن الأهالي هجروا أحياءهم وسكنوا القري والجبال ويقول إن العاملين بالحكومة هنا أكثر عددا من الأهالي وإن الأمن مستتب والناس ممسوكون بقبضة من حديد. هل كان يشكو مثله مثل جده الفلاح الفصيح؟ لا أستطيع أن أدعي ذلك بحسم، فنفس هدوء البال الذي رأيته في الإسكندرية، رأيته هنا بأشكال متنوعة، حتي الشكوي هادئة خالية من العنف المعهود في القاهرة. ربما لأننا في موسم السياحة والناس يعملون ويرزقون خيرا وفيرا في الشتاء ويدخرون غضبهم للصيف. وربما لأن المكان صار أكثر إمتاعا للعين وأكثر إنسانية، يستمتع به أهالي المدينة بقدر استمتاع السائحين به، رغم قلة الموارد والخدمات المتاحة للأهالي في مقابل وفرتها بالنسبة للسائحين. الرحلة استمرت خمسة أيام، قضيت أجملها في الأقصر، رغم أن لأسوان في ذاكرتي محبة خاصة. الرحلة الأكبر والأطول بين مصر وكندا لم تنته بعد، ولكن الآن وقد اتصل الشمال بالجنوب وصرت أهفو للعيش بينهما، لم يبق سوي أن يتصل الشرق بالغرب لتتم السعادة ويحصل الهناء. [email protected]