في مقابلة الرئيس بشار الأسد قبل أيام مع صحيفة "حرييت" التركية قال: "يتعين علي تركيا تحسين علاقاتها مع حليفتها "إسرائيل" كي تضمن مجدداً القيام بدور الوساطة بين سوريا والدولة العبرية".. ما يعني تأكيد رغبة سوريا في التفاوض، ولكن عبر أنقرة. الرئيس الأسد في ذهنه رغبة الراعي الأمريكي، في أن يكون الوسيط تركيا وليس فرنسيا، وهو ما يفسر عبارته المتناقضة: "لا يوجد شريك إسرائيلي للسلام يمكن أن تتفاوض معه دمشق"، في أعقاب محادثاته مع الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي حول اتفاقية (الشراكة السورية الأوروبية). الرد الإسرائيلي لم يتأخر هذه المرة، وعلي غير العادة، فقد خصصت هاآرتس افتتاحياتها لتعلن إنه "يوجد في دمشق شريك للسلام"، وكتبت الجيروزاليم بوست في افتتاحيتها أن المسار السوري الإسرائيلي ودفعه قدمًا يحظي بتأييد مطلق من رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، جابي أشكنازي. تركيا تمثل أهمية خاصة لواشنطن اليوم، ليس فقط لأنها تملك ثاني أكبر جيش في منظمة حلف شمال الأطلسي، أو لكونها تتمتع بسادس أكبر اقتصاد في أوروبا، فضلا عن حدودها مع إيران والعراق وسوريا، أو حتي باعتبارها قاعدة لعمليات الولاياتالمتحدة العسكرية في أفغانستان وخارجها، وإنما لأنها لاعب أساسي في المشروع الشرق أوسطي للولايات المتحدة، وهو ما تتفهمه تركيا جيدا وتستثمره أوروبيا وإقليميا. بزغ نجم تركيا مؤخرا في منطقة الشرق الأوسط، باعتبارها قوة اقليمية مؤثرة، تجيد لعب الأدوار المركبة والمتعددة، مع معظم دول المنطقة بلا استثناء، كالضغط والتشتيت والمراوغة والتمثيل - إذا اقتضي الأمر - ومسرحية رجب طيب أردوغان في دافوس مع الثعلب شيمون بيريز رئيس إسرائيل، ليست بعيدة عن الأذهان، ناهيك عن قدرتها علي لم شمل الأعداء والفرقاء. قبل فترة.. أمسك أردوغان بواحد من أشد الملفات تعقيدا، وهو ملف السلام السوري - الإسرائيلي، وهو يراهن بذلك علي إكساب تركيا موقعا نافذا للعب دور الوسيط في المنطقة. ما سرب إلي سوريا هو: ان اسرائيل راغبة في إعادة الجولان، مقابل ان تقطع سوريا علاقاتها بايران وتنهي دعمها لحزب الله وحركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين. سوريا تشترط استئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها عام 2000، في إطار ما يسمي ب"وديعة رابين" التي تعهد فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل بالانسحاب إلي خط الرابع من يونيه 1967 والتخلي عن هضبة الجولان وإعادتها لسوريا. وحسب المؤرخ والصحفي البريطاني باتريك سيل، وهو كاتب السيرة الذاتية للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، فإنه كان يوجد ثلاثة التزامات من الجانب الإسرائيلي تجاه سوريا: الأول قطعه إسحاق رابين في أغسطس 1993 ويشير إلي انسحاب كلي من الجولان، وبعد هذا في يوليو 1994 توضيح من قبل رابين يشير إلي أن الانسحاب الكلي يعني الانسحاب إلي حدود 4 يونيه 1967، ثم وبعد اغتيال رابين تم تصديق هذا الالتزام من قبل خلفه شيمون بيريز في ديسمبر 1995. وقد قام دينيس روس مسئول الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأمريكية في الرابع من ديسمبر 1995 بالذهاب إلي إسرائيل وإعطاء بيريز خلفية كاملة عن المفاوضات السرية التي دارت بين رابين والأسد، في حضور أمون شحاك وداني ياتوم رئيس الموساد. وأبلغ روس الأسد أن بيريز ملتزم بما بدأه رابين ومتلهف للعمل علي سلام شامل، ومن ثم بدأت في ديسمبر 1995 مرحلة جديدة من محادثات سورية- إسرائيلية مكثفة ولكنها توقفت في يناير 1996 عندما اغتالت إسرائيل يحيي عياش ثم جاءت مجزرة قانا لتنهي المحادثات، حتي برزت مرة أخري مع تركيا. في أغلب الأحوال.. تبدو مهارة الدبلوماسية التركية في المناورة لتشتيت الاختراق الإيراني ذ العربي أساسا، بالتأكيد علي هوية تركيا السنية، دون الدخول في مواجهة علنية مع إيران، أو في مواجهة مباشرة مع الدور المصري فيما يخص الملف الفلسطيني- الإسرائيلي، أو الفلسطيني- الفلسطيني. التحركات السياسية التركية تأتي انطلاقا من أمرين: الأول هو أن مستقبل التطورات في الشرق الأوسط سيعتمد إلي حد كبير علي نوع العلاقات الإيرانية- الأميركية خلال الفترة المقبلة. الأمر الثاني، وهو الأهم، ادراك تركيا الواعي بما يجري داخل المطبخ الأمريكي ودوائر صنع القرار الآن، خاصة التباين في وجهات النظر حول "المشروع الشرق أوسطي للولايات المتحدة". فهناك من يري أن انجاز هذا المشروع يتوقف علي نجاح المسار السوري- الاسرائيلي، وتفعيل المفاوضات بينهما من خلال الوسيط التركي، وهو ما "سيغير من معالم المنطقة بما يؤدي في النهاية الي سلخ دمشق (ومعها حزب الله وحماس والجهاد) من علاقتها الاستراتيجية مع ايران"، مما يعني وضع المسار الفلسطيني ذ الإسرائيلي علي الرف، وترك الطرفين لبعضهما البعض، دون ضغط علي إسرائيل تحديدا.